في 18 من سبتمبر الجاري، سيتوجه سكان اسكتلندا إلى صناديق الاقتراع للإجابة عن سؤال واضح مؤداه: «هل يتعين على اسكتلندا الانفصال لتصبح دولة مستقلة؟»، الحقيقة أنه وفقاً لآخر استطلاعات الرأي، يبدو أن الاسكتلنديين سيجيبون بالنفي، بحيث تتقدم الحركة المدافعة عن الوحدة التي تطلق على نفسها، «الأفضل معاً»، استطلاعات الرأي بحوالي 53 في المئة مقابل 47 في المئة لدعاة الاستقلال. لكن إذا كانت الإجابة تسير في اتجاه الوحدة، فإن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو عن سبب إثارة سؤال الانفصال أصلاً في الوقت الراهن، فحتى بعد دعوة الرئيس الأميركي جون كيندي في 1962 للتأسيس لإعلان عالمي يحافظ على وحدة الكيانات ويحول دون تشظيها، على شاكلة الإعلان الأميركي للاستقلال في عام 1776، لم تختف المشاعر القومية، ولم تؤد رياح العولمة الكاسحة وتحرير الأسواق وظهور الماركات العالمية إلى اندثارها، بل إنه من خلال الترويج لفكرة أن «كل ما هو صغير هو أيضاً جميل» انتعشت الحركات الانفصالية وازدهرت مطالبها، بدءاً من اسكتلندا وليس انتهاء بإقليم كتالونيا في إسبانيا ومناطق أخرى في أوروبا تنادي بولادة دول مستقلة صغيرة تكون أقدر، حسب زعمهم، على بلوغ النجاح الاقتصادي من خلال مرونتها وانسجامها الثقافي، لتصبح نموذجاً يحتذى في الرفاه والعدالة الاجتماعية. ولعل المثال الأبرز على تنامي المشاعر القومية وتحبيذ فكرة الاستقلال والانفصال صعود الحزب القومي الاسكتلندي الذي تحول من حزب صغير لا وزن له قبل نصف قرن من الزمن، بحيث لم يكن يحصل على أكثر من 0.5 في المئة من أصوات الاسكتلنديين عام 1955، إلى الواجهة باعتباره حزب الأغلبية في الحكومة المنبثقة من البرلمان الاسكتلندي، وهو ما يدعونا لطرح السؤال حول ما الذي تغير حتى تزدهر الأفكار القومية لدى الاسكتلنديين؟ فالأمر لا يتعلق بشعور متفرد بالاختلاف والتميز ما دامت الهوية الاسكتلندية الخاصة ظلت إحدى الملامح الثقافية المميزة على امتداد الوحدة مع إنجلترا التي ترجع إلى عام 1707، كما أن اسكتلندا لم تتحول قط إلى مجرد «شمال بريطانيا»، وإن كانت القومية الاسكتلندية أيضاً لم تحتج أبداً في الماضي إلى الاستقلال للتعبير عن نفسها، ليبقى الجديد الذي يفسر نزوع الاسكتلنديين نحو الانفصال، يتمثل في التغيرات العالمية. فقد انتقلت اسكتلندا من أحد أهم المراكز الصناعية في العالم إلى اقتصاد قائم على الخدمات، وفيما كانت صناعة السفن الاسكتلندية تنتج خُمس الأساطيل العالمية، وفي حين كان القطاع الصناعي وقطاع التعدين يشغل 40 في المئة من العمال الاسكتلنديين، فإنه لم يعد يشغل حالياً سوى 8 في المئة، وهو الأمر الذي دفع اسكتلندا كغيرها من الدول إلى الانخراط في عملية بحث طويلة ومضنية عن مهارات جديدة وفرص عمل غير مسبوقة، ووسائل ازدهار غير تقليدية، ما يعني أن خصمها العنيد ليست الوحدة مع انجلترا، بل الصراع مع العولمة. لكن وبنفس الصورة التي أدت بها الثورة الصناعية في أوروبا إلى تنامي الحركات القومية نتيجة الفوارق الهائلة وملامح الحيف الاجتماعي الصارخة، يجد الأوروبيون أنفسهم اليوم ملتفين حول هوياتهم الوطنية التقليدية، لكن هذه المرة، بسبب الاختلالات الناجمة عن العولمة، وهكذا يتساءل الاسكتلنديون عما تستطيع بريطانيا تقديمه لهم وسط هذه الاختلالات، لا سيما الائتلاف الحاكم حالياً بقيادة "المحافظين" الذين يخططون بدورهم لتنظيم استفتاء حول بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي والذهاب بعيداً في الاقتطاعات الاجتماعية. لكن علينا أن نعرف بأن بريطانيا لم تجمعها أبداً الروابط الإثنية، فنحن كنا دائماً أربع قوميات في دولة واحدة، وتحلينا على الدوام بالبراجماتية، بحيث لم ننجرف قط وراء الشعارات الوطنية كما هو الحال في أميركا، أو فرنسا على سبيل المثال، فقد وجدت بريطانيا نفسها ملتفة حول مؤسساتها العريقة من ملكية وجيش وبرلمان وإعلام تقوده «بي بي سي»، وهي المؤسسات التي يبدو أنها لم تولد ما يكفي من الفخر والتباهي في نفوس الاسكتلنديين لدرجة المطالبة بالاستقلال. وحتى عندما تبدو الوحدة بين أجزاء المملكة المتحدة مجرد شعار فضفاض، فإنه في العمق يتأسس على شراكة صلبة تقوم على القيم التي بدورها تسند دولة الرعاية والنظام الصحي، وهي الفكرة التي ترى أنه من خلال تعبئة الموارد المشتركة للشعوب واقتسامها يمكن ضمان للاسكتلنديين كما للإنجليز وسكان إيرلندا الشمالية وويلز خدمات صحية وتعليمية وحداً أدنى من معايير العمل بصرف النظر عن القومية. وهي الحقوق التي تغيب في الكثير من الدول بما فيها المتقدمة، فالأميركيون مثلا قد يستفيدون من الحقوق السياسية والمدنية نفسها دون تمييز، كما أن الاتحاد الأوروبي قد يتقاسم سوقاً موحدة، إلا أن الاسكتلنديين والإنجليز وسكان ويلز وإيرلندا الشمالية ذهبوا أبعد من ذلك باقتسامهم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نفسها، فإذا كان متوسط دخل العائلة الأميركية في ولاية ميسيسيبي مثلا هو 60 في المئة من نظيره لدى أسرة تقطن في ولاية نيو هامبشر، وإذا كان معدل الدخل في بلغاريا التي انضمت حديثاً إلى الاتحاد الأوروبي يمثل 6 في المئة فقط من معدل الدخل في لوكسمبورج التي تعتبر أغنى دولة أوروبية، فإن دخل الاسكتلندي هو نفس دخل جاره الإنجليزي، لذا نجحت المملكة المتحدة في الصعود خلال القرن العشرين بتوزيع منافع التعاون على القوميات المختلفة وفي الوقت نفسه الحفاظ على الخصوصيات الثقافية لكل كيان ضمن الاتحاد، وهنا يُطرح سؤال عويص على الدول، إذ كيف تستطيع الحفاظ على تفردها في عالم معولم لم تعد فيه السلع والبضائع تُصنّع محلياً، بل على صعيد عالمي، وحيث الرساميل والتدفقات المالية تتسرب عبر الحدود، لتتعاظم المخاوف من أن يؤدي الاندماج في النظام العالمي إلى فقدان الخصوصية، وأيضاً من أن يحرم التشبث المفرط بالخصوصية والهوية إلى تضييع الفرص العالمية. وفيما تبرز اسكتلندا كنموذج لتفويض السلطات ونقلها من المركز إلى الأطراف من خلال المؤسسات المحلية، يبدو أن المملكة تتجه أكثر نحو نظام الدولة الفيدرالية، بما ينسجم مع التركيبة السكانية التي تعطي لإنجلترا وحدها 85 في المئة من مجموع السكان، على أن يُثبت هذا الاتحاد أنه ما زال المنصة الأفضل التي يمكن للاسكتلنديين من خلالها مخاطبة العالم والانخراط معه. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"