أعتقد أن لدينا الآن كل المبررات والدواعي الكافية للاهتمام بمصير المسيحيين في العالم العربي. وفي العديد من دول المنطقة لم تتمكن كنائسهم القديمة من تجاوز المحن والمصاعب المتتابعة والغزوات الأجنبية والقمع الداخلي فحسب، بل إنها لعبت أيضاً دوراً مهماً من حيث إسهاماتها العميقة في صياغة وإثراء الثقافة العربية والحضارة الإسلامية برمتها. وبالنظر إلى الظواهر العدائية التي تفشت خلال أحداث ما سمي «الربيع العربي» في الشرق الأوسط، وجدت الأقليات الدينية والإثنية نفسها في لجّة الأخطار الداهمة، وعالقة في خضم الصراعات المذهبية والطائفية. وهي تعاني الآن من الاحتلال والاستبعاد القسري عن الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد كتب لهذه التجمعات البشرية التي تعرضت لهذا المصير المؤلم أن تدفع ثمناً باهظاً، خاصة في سوريا والعراق. وقد تفاقم نزوح هذه التجمعات البشرية من بيوتها ومدنها هرباً من عنف الحروب الأهلية التي اجتاحت تلك البلدان، أو بسبب تعرضها للطرد والترحيل القسري على أيدي المتطرفين المجرمين في إطار حملاتهم الشعواء للتطهير الديني، ولذلك فإن حجم التجمعات البشرية المسيحية قد شهد تراجعاً كبيراً وبما يبرر مشاعر الخوف من انقراضها تماماً في أوطانها ومعاقلها التي عاشت فيها على مر العصور. وبما أن هذه الكنائس تعود من حيث القِدَم إلى أيام سيدنا المسيح عليه السلام، وأنها أضافت خلال هذا الوقت الطويل الكثير من عناصر الغنى والتنوع لثقافة وحضارة المشرق العربي، فإن من غير المعقول أن نتصور دولاً مثل مصر ولبنان وفلسطين وسوريا والعراق من دون وجود الأقباط والمارونيين والسريان والآشوريين والكلدان وبقية أتباع الكنيستين الكاثوليكية الغربية والأورثوذوكسية الشرقية. ويقتضي الخط السليم في التفكير ألا نقصر اهتمامنا على انتهاج الأساليب الظرفيّة، لإنقاذ هذه الأقليات ذات الأهمية الثقافية والتاريخية من الانقراض، بل إن الأمر يتطلب منا التفكير في تأمين مستقبل بقائها في أوطانها. وبكلمة واحدة، يمكن القول إن الفصائل والمجموعات المتطرفة وغير المتسامحة، تشكل تحدياً كبيراً ليس على مسيحيي المشرق العربي وحدهم، بل على كل العرب والمسلمين أيضاً. وبالطبع، فإننا لو نظرنا إلى الهجوم الوحشي لتنظيم «داعش» في سوريا والعراق وتصرفاته المرعبة التي تتميز بالعنف المفرط وعدم التسامح، فإن السؤال الذي يقفز إلى أذهاننا يتعلق بما يمكننا أن نفعله للدفاع عن المسيحيين وبقية الأقليات التي تتعرض الآن للمخاطر بسبب هذا الصراع الدموي. وسيكون هذا السؤال هو الموضوع المحوري لمؤتمر سينظم في واشنطن الأسبوع المقبل تحت شعار «دفاعاً عن المسيحيين». وسيجمع هذا الحدث قادة الدول التي تتبع الكنائس الست في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى رجال قانون وناشطين في الحقوق المدنية من عدة منظمات غير حكومية، ومهتمين بحقوق الإنسان والحريات الدينية بصفة عامة. وسأشارك شخصياً في فعاليات هذا المؤتمر بصفتي كمستشار لمجموعة العمل وأيضاً كمحاضر. وقبل كل شيء، أفضل أن أشير إلى أنني كاثوليكي ماروني، وعربي أميركي، متمسك بقوة بتراثي وأصولي وبأرض أبائي وأجدادي. وأنا مهتم بإنقاذ العنصر الذي أنتسب إليه، والذي تنتمي إليه بقية المجتمعات المسيحية في العالم العربي. كما أنني أشارك في هذا المؤتمر لأنني أميركي يغلبني الاعتقاد بأن أميركا شاركت بطريقة سلبية في الكثير من الأحداث التي واكبت الصراعات الخطيرة في منطقة الشرق الأوسط، وكانت سبباً في عدم الاستقرار والفوضى التي تعيشها اليوم. ويخالجني الخوف الآن من أن نواصل تبنّي الأساليب الخاطئة والإهمال الأعمى أو الأحمق لبعض الجوانب المهمة الذي يمكنه أن يزيد الموقف سوءاً وغموضاً. وعلى سبيل المثال، أنا أخشى من أن ترتفع بعض الأصوات المرتبطة باليمين الأميركي المتطرف للمطالبة باتخاذ إجراءات للدفاع عن المسيحيين في العراق. ولعل ما يدعو إلى الأسف والمرارة أن نتذكر ما حدث قبل عقد من الزمن عندما قامت إدارة بوش بغزو العراق، حيث كان الطيف السياسي الذي يمثل اليمين المتطرف منشغلاً بدق طبول الحرب حتى يسمع صرخات الاستغاثة الصادرة عن المسيحيين العراقيين الذين سيشتكون من نتائج هذه الحرب غير المحسوبة على مجتمعاتهم. وهذه الفئة هي نفسها التي أصمّت آذانها مرة أخرى عن المأزق الذي وجد المسيحيون العراقيون أنفسهم فيه خلال الحرب الأهلية الوحشية التي أعقبت ذلك الغزو وبما رافقه من عمليات «تطهير عرقي» أدت إلى تراجع عدد السكان المسيحيين في العراق من 1,4 مليون إلى 400 ألف. فهل يعني الدفاع عن المسيحيين الآن أن صدام حسين يجب أن يُسامح لأنه وفر للمسيحيين الحماية بأكثر مما توفر لهم في العهد التالي الذي شهد المذابح المذهبية والطائفية؟. بالطبع لا. ولكن، نظراً لأن أولئك الذين يدافعون بحماسة عن تنفيذ هجوم عسكري بقيادة الولايات المتحدة على العراق وسوريا، هم ذاتهم الذين أدت سياساتهم المتهورة إلى الأزمة الراهنة التي يعيشها العراق الآن، فإنني أعتقد أن من واجبنا أن نشكك في أهدافهم. وكما أن من المهم ألا نسمح باستغلال شعار الدفاع عن المسيحيين، لتغطية أجندات «صقور الحرب»، فإن من واجبنا أيضاً ألا نسمح لهذا الشعار بأن يبدو وكأنه قد تحوّل إلى عملية استهداف للمسلمين، لأن ذلك سيضرّ بواقع وأحوال المسيحيين في الشرق الأوسط. والشيء الذي ينبغي التخوف منه أيضاً هو أصوات أولئك الذين يدافعون عن بعض المسيحيين فقط -ويهملون على سبيل المثال الصعوبات التي يعيشها المسيحيون الفلسطينيون الذين يعيشون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي- أو أولئك الذين يقصرون ولاءهم وانتماءهم للمسيحيين دون غيرهم. وأنا كمسيحي وعربي أميركي، أرفض هذين الطرحين معاً. ولا يمكنني أن أتخيل فلسطين من دون مجتمعها المسيحي العربي. وغالباً ما يأتي المسيحيون إلى «الأرض المقدسة» لمشاهدة المواقع الأثرية والتاريخية ويتغافلون تماماً عن الواقع المرير الذي يعيشه المسيحيون الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي. وقد فقدت مدينة بيت لحم الشهيرة معظم أراضيها بعد أن اغتصبها المستوطنون الإسرائيليون. وهذه قضية تستحق هي أيضاً اهتمامنا بكل تأكيد. ـ ـ ــ ـ جيمس زغبي رئيس المعهد العربي- الأميركي