يبدو مدهشاً أن يتجه ملايين البشر إلى قاع التاريخ يبحثون فيه عن المستقبل، بعد أن حققت البشرية أعظم ثورة في مسيرتها الطويلة وهي ثورة المعرفة والاتصال، واتسع نطاق الحريات والديموقراطيات فلم يبق في العالم سوى بضع دول تتحكم فيها الديكتاتوريات التي تحتضر ونشهد خروجها النهائي من التاريخ. وكان من المفترض أن تتجه الأصوليات الدينية والإثنية والعرقية إلى التصالح مع الحداثة التي تعيشها البشرية، وأن تفرق بين ما هو تاريخي نشأ في بيئة مختلفة عن حياتنا المعاصرة، وبين ما هو من المقدسات التي تحافظ عليها الأمم مع حفاظها على حريات الاعتقاد والتعبير. كانت الأصولية اليهودية أول من خرج عن معطيات العصر، حين استقدمت التاريخ لتثبت حقاً وهمياً لليهود في أرض فلسطين مستعيدة قصصاً من التوراة التي كتبت بعد سبعة قرون من وفاة موسى عليه السلام لكي تشرد شعباً وتحل مكانه. وكانت الأصولية المسيحية قد تشبثت بحكم الكنيسة نحو خمسة عشر قرناً. ثم جاءت الأصولية الإسلامية فخلطت بين النصوص المقدسة وبين الإجرائية التاريخية، وجعلها هذا الخلط تدين بالولاء للتاريخ السياسي، فتنقسم إلى عديد من الطوائف والفرق التي نشأت بسبب الصراع على الحكم. وحاولت أن تبرر شرعيتها باختلاق الفتاوى والاجتهادات التي تمنحها قدسية وسرعان ما تحولت تلك الاجتهادات إلى نصوص تتوارثها الأجيال على أنها مسلَّمات قدسية لا يجوز الخرج عنها. ولقد كان من أسوأ ما حل بالأمة العربية منذ أواسط القرن الماضي استيقاظ هذه الدعوات التي استلهمت التاريخ وأيدت رؤيتها بنصوص كانت مرتبطة به، ولم تسمح لفكرها أن يعيد النظر وأن يوظف النصوص توظيفاً عقلانياً، لأنها لا تؤمن بقدرة العقل، وترى التاريخ جامداً لا يتحرك. وضمن ردات الفعل على الأصوليات الراسخة جاءت الأصولية القومية التي بدأتها الحركة الطورانية التي استدعت نهوض فكر القومية العربية فغرقت الأصوليتان في جمود مستجد باتت له ثوابته التي أغلقت عليه منافذ رؤية الحراك الإنساني الذي برعت فيه أوروبا المؤسسة لعصر القوميات لكنها تمكنت من بناء اتحادها الأوروبي بينما العرب يكتفون بشعارات وحدوية وصلت في نهاياتها إلى البحث عن الحد الأدنى من التضامن. وسرعان ما انفرط عقد هذا التضامن الوهمي مع بداية «الربيع العربي» الذي سرعان ما صار شتاء عاصفاً حين نهضت الأصوليات الدينية لتستغل ما حدث فيه من تفكك لعرى الدول التي بنت حضورها على العصبية العسكرتارية فهوت سريعاً وتحولت مساراتها إلى صراعات دموية ما تزال تهرق دماء شعبها وتدمر قواها الذاتية. وقد حاولت قوى الاعتدال والتقدم والتحديث أن تجد لها موقعاً قيادياً فلم تفلح، وكانت التجربة في لبنان مريرة منذ أواسط السبعينيات، فقد كان حرياً بلبنان بوصفه البلد العربي الذي كان الأكثر انفتاحاً على ثقافات الغرب، ولكونه نجا من التسلط الديكتاتوري محلياً، أن يقدم تجربة نظامه الديمقراطي ليكون ريادة في الأمة، ولكن هجوم الأصولية الدينية على الساحة اللبنانية عبر «حزب الله» جعل لبنان رهين أصوليات أخرى بدأت تتصارع وتدافع عن نفسها أمامه وتحمي حضورها ومستقبلها. وقد استفادت أصولية «حزب الله» من نضالها ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، لتجد مبرراً شرعياً وأخلاقياً لنمو فكرها عقائدياً. وعلى رغم ما حظيت به من مساندة شعبية عربية عامة إلا أنها بقيت ترفع رايات أصولية وتبحث عن دم تاريخي وصل بها إلى أن تنقل معاركها إلى عاصمة الأمويين تلبية لأوامر من دولة أصولية. وفي العراق الذي وعده الاحتلال الأميركي بتخليصه من الديكتاتورية دعم المحتلون نمو الأصوليات وغيبوا مبدأ المواطنة، وجاؤوا بأصولية ديكتاتورية جديدة باسم الديمقراطية، وتم تهشيم القوى الوطنية فظهرت أصولية «القاعدة» التي صارت فزاعة القرن الحادي والعشرين. واليوم في سوريا والعراق يتفاقم حضور «داعش»، والعجيب أن يتحالف معه أعضاء من حزب «البعث» الذي حكم البلدين بأصولية قومية شمولية نحو نصف قرن، تحكم فيها بكل قوى الدولة وأسس منظمات شعبية مهمتها تربية الأطفال والشباب -الذين صاروا اليوم وقود الثورات ضده - وهي نهاية كارثية لإخفاقات مسيرة حزب علماني قومي في مواجهة «داعش» الخارج عن كل معطيات العصر، وهو لا يستفيد من منجزات العلم سوى باستخدام الأسلحة، بل إنه يميل إلى استخدام السيف والسكين عند ذبح من يخالفه، وما زال نموه وانتصاراته من الأسرار التي يترقب الناس كشفها! فكيف يمكن أن يصبح «داعش» قوة عسكرية بهذا الحجم ويلتحق بها الآلاف من المتطرفين من أصقاع الأرض، والمجتمع الدولي يرقب كل صغيرة وكبيرة تحدث في سوريا والعراق؟ وإذا كان النظام السوري قد وجد فيها عوناً له للقضاء على ثورة شعبه وتشويه صورتها على أمل أن يتحول العالم إلى دعمه وضمه إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب فقد حول سوريا حقاً إلى ساحة حرب دولية فضلاً عن كونه أدخل الأصوليات من «حزب الله» ومن إيران والعراق لتصير أهم القوى في الساحة. وكذلك غامر العالم حين ظن أن إغماض العين عن نمو هذه التنظيمات سيتيح له تجميع الإرهابيين في بقعة واحدة بين سوريا والعراق، على أمل أن يتمكن من تنظيف عواصمه من هؤلاء المتطرفين بحيث يسهل عليه القضاء عليهم دفعة واحدة. وهذه الحسابات النظرية قد تقوده إلى حروب طويلة المدى كما حدث في أفغانستان وستدفع الشعوب أثمانها من دمائها ومن ثرواتها. وجلُّ ما نخشاه اليوم هو أن تصير بلادنا ساحة حروب لا تنتهي، وحتى إذا صار النظام السوري رأس حربة في التحالفات الدولية لمحاربة الإرهاب فإن من سيدفع ثمن هذه الحرب هو شعب سوريا على كل جبهات الصراع، وسيكون الخطر أن ينضم كثير من السوريين لتنظيمات أشد تطرفاً تعبيراً عن غضبهم من الخذلان الدولي لهم بعد أن تشرد منهم الملايين وقتل مئات الآلاف. واستباقاً لما نتوقع من تصعيد يفوق كل ما حدث حتى الآن، دعونا إلى مؤتمر حوار وطني عام وشامل يستند إلى مبادئ مؤتمر جنيف ويبث فيها الحياة، على أمل أن تجتمع النخب السورية من كل الأطياف لتجسد حالة وطنية متكاملة، تسمو فوق النظام والمعارضة معاً، ويكون الهدف إنقاذ سوريا، ونأمل أن نجد استجابة، فلا يغيب عن المجتمع الدولي أن مشاعر القهر المريعة التي يعيشها السوريون لن تشكل حاضنة لمكافحة الإرهاب ما لم يشعروا بالإنصاف.