يحظى الرئيس العراقي محمد فؤاد معصوم بعلاقات مع أغلب القوى السياسية؛ وعلى مختلف عناوينها، القومية والمذهبية، فالرجل خلال وجوده في الواجهة ظل على سجيته يقترب ولا يبتعد خالياً من لوثة التعصب، ومن المؤكد أن للنشأة تأثيراً، فالأب الشيخ معصوم خضر (ت 1964) كان رئيس علماء كردستان، وقبلها كان إماماً وخطيباً لمسجد كويسنجق، وكان على مستوى من الانفتاح والتنوير. ففي غمرة الاحتجاج ضد معاهدة «بورتسموث» (1948)، دعا الشيخ معصوم مسيحيي ويهود كويسنجق إلى مسجده لحضور اجتماعات تخص المناسبة؛ بعد أن كان يذهب إلى الكنيسة المسيحية والكنيس اليهودي في المناسبات والأعياد الدينية، من دون حرج، وكان له الفضل في بقاء قرية هرموتا حافظةً لهويتها المسيحية، كي لا يصبح أهلها غرباء وتتم إزاحتهم بعذر من الأعذار. اختار معصوم جماعة «إخوان الصفا» (ق 4هـ/10م) موضوع أطروحة لنيل الدكتوراه، وشد الرحال للتدريس في جامعة البصرة (حتى 1975)، وكلها أسباب في صياغة طبعه على إيلاف ديني وقومي. وجدتُ تأثيراً لهذه الجماعة في تفكيره، وهي جماعة ليبرالية ليس بقياس عصرها فحسب إنما بقياس عصرنا أيضاً، يقرؤون أي كتاب ولا يتعصبون لمذهب، مع موقف ضد الانتقام، الديني أو المذهبي. من يقرأ رسائلهم يعلق شيء من المسامحة في ضميره. هذه مقدمة للحديث عن دعوة الرئيس العراقي للمصالحة الوطنية، بمعنى أنه إذا صفت النوايا معه، فهو أهل للمهمة، فمن قُرب لم أشعر به يميل لعصبية، وبهذا هنأته بالخروج من البرلمان ذي التجاذبات في الدين والمذهب والقومية، ورثيتُ له منصب الرئيس على الرغم من رفعته، خشية الضياع في الغابة، فهو صاحب ائتلافات لا افتراقات دموية. إلا أن وجود رئيس وزراء جديد قد يمنح فرصة أمل بالتكاتف من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ فحيدر العبادي هو الآخر يُصنف من الحمائم، ولم يأت للمنصب بمؤهل حزبي فقط، وإنما أتاه بكفاءة علمية، إذ تحدر من أسرة مدنية في تكوينها، وجاء على تركة تسع سنوات مما تركه رفيقاه، على رأس وزارة منبثقة مِن مجلسي نواب، حصل خلالهما خراب بقية الإعمار، وتلك قصة تتعلق بعصبة الحزب المدمرة. يدعم هذا الثنائي رئيس السلطة التشريعية سليم الجبوري، والرجل يبدو لي من لقاءاته وحواراته أنه متوازن، وطني الروح، وصاحب شهادة علمية أيضاً. وعلى العموم، فالثلاثة ليسوا من ذوي الثأر والانتقام، فعلى ما أظن أنهم سيكونون عوناً لبعضهم بعضاً. والأهم ألا تكون خواتمهم بيد أحزابهم. ومهما نسيتُ مما تولى فلا أنسى مداخلة صاحب العمامة البيضاء الشيخ جمال الوكيل، في آخر مؤتمر للمعارضة (14- 16 ديسمبر 2002) بلندن، المولود بكربلاء ورئيس «الوفاق الإسلامي»، والرجل من محاسن أهلنا الكرد الفيليين، وبتأثير مداخلته كتبتُ مقالاً (16 أبريل 2003)، بعد اجتياح بغداد بسبعة أيام «لا تسمعوا لنصيحة سُديف الشاعر»، فكل الانتقامات التي حصلت، بُعيد نجاح العباسيين، كانت بتحريض هذا الشاعر. كان فضائية وإذاعة زمانه. قال الشيخ، أمام عيون تقدح شرراً، يتوسطهم الأفغاني الأميركي زلماي خليل زادة مختالاً بدوره: «لا نريد مزيداً من الدماء، وليشمل العفو الجميع، بعد سقوط النظام، بما فيهم صدام حسين». سمعت تلك الكلمات ولحظتها تحدثت مع قائلها وكان مصراً بوعي لا بعاطفة. كانت دعوة صريحة إلى مصالحة كبرى، مثلما تحققت بسلطنة عُمان (1974)، وبجنوب أفريقيا (1992)، تزامناً مع ما تحقق بإقليم كردستان العراق، وكانت نتائج تلك المصالحات بناء مجتمعات ودول عامرة. زرت عُمان ولخصتها بعبارة «عمامة وابتسامة»، وجنوب أفريقيا ضمدت جراحات عشرات السنين من القتل والإذلال، وإقليم كردستان انطلق به العمران. ما دعا إليه الشيخ كان مطروحاً على لسان مرجعه آية الله محمد الشيرازي (ت 2001)؛ فكان الأخير يطرح «شعار العفو والتسامح، وقد انتقد العنف، وكان في البداية يشكك في أسلوب غاندي في اللاعنف، إلا أنه عاد بعد فترة ليؤكد اللاعنف واعتماد السلم في العمل كاستراتيجية ثابتة له مِن أجل التَّغيير» (الكاتب، المرجعية الدينية الشيعية وآفاق التطور). كانت نظرة الوكيل، المتصلة بنظرة مرجعه، صائبة قياساً بما حصل بعد سقوط النظام؛ فما تحقق كان أمراً مشيناً. لم يسمعها أصحاب السوابق واللواحق بالتفجيرات والاغتيالات، وإنْ سمعوها لا يعونها أبداً، مع أنهم ساهموا بالهدم، هدم النفوس. وها هو العراق بين خيارين: إما المصالحة الشاملة الصادقة وإما الطوفان، وها هو السيل يهدر بقوة. هنا نُقدر أهمية دعوة رئيس الجمهورية إلى مؤتمر مصالحة. إنها مهمة لا تقبل التأجيل ولا التسويف، سفينة النجاة من طوفان الدم، وحدها القادرة على تضميد الجراح ودملها. لقد أمسى العراق على كف عفريت، والأسباب مرتبطة بالمسببات، حتى التقسيم ما بات حلاً، فهو محفوف بالمخاطر وتصفيات مناطقية قد لا نرى لها مثيلاً في التاريخ. وحدهم الطائفيون، لمصالحهم الخاصة وأحزابهم، يجدون في المصالحة شراً، فيحاولون وضع العصا في عجلتها، وما أظنهم لا يدركون أن ما حصل ويحصل كان بسبب غيابها، وهي ليست تعيين فلان أو إطلاق سراح آخر، إنما تعني تطبيع الحياة، أن ينسحب من الشارع والدائرة كل ما يدل على طائفية، أن يُحصر السلاح بيد السلطة، فلا مسامحة ولا عُذر مع أي جماعة مسلحة كانت، وأن تُراجَع السياسات كاملة، وأن يُحارَب الفساد، وأن يُلغى قانون الوحوش: كارثة في أبرياء مقابلها في أبرياء آخرين. استعير مِن الشاعر الخارج على الأطر التقليدية إلى رحاب المواطنة صالح الجعفري (ت 1979): «لا دخَلَ للسان كلا ولا/ يَلزمُ أَن نُوحَّدَ المذَهبْا»، وهو ما نتمنى أن تتم المصالحة على هديه، ليس فيه تنازل عن قومية أو مذهب إنما ألا تستعمل تلك العناوين لـ«غرض يقضونه وأداة»! أما الشيخ المبادر الأول للمصالحة فلم أعد أسمع عنه شيئاً، فقد اختفت كلماته الصادقة، وهو ينظر ما لا ينظره الهائجون، وسط زعيق الانتقام والطائفية. احرص أيها الرئيس على تخيير الأخيار والأشرار: إما المصالحة وإما الطوفان!