نواجه بصورة شبه يومية خيارات صعبة نكافح لاتخاذها بشأن سلسلة من المخاوف المتعلقة بالسياسة الداخلية والخارجية. ومن بين القرارات التي يجب اتخاذها تحديد التوجه حول ما إذا كنا سنثبت على المبدأ أو سنلجأ إلى التفاوض أو سنقدم تنازلات، وما إذا كنا سندفع باتجاه تحقيق كل ما نريده أو سنرضى بالعمل على إنجاز ما نعتقد أنه ممكن. وبينما تحلق هذه الاختيارات في الأفق، كثيراً ما أسترشد بدرس مهم تعلمته قبل أكثر من أربعة عقود من أحد أبطال حركة الحقوق المدنية الأميركية هو «جوليان بوند»، زعيم لجنة التنسيق الطلابي غير العنيف، ذي الأصل الأفريقي. وتبدأ القصة في عام 1968 أثناء المؤتمر الانتخابي للحزب الديمقراطي في شيكاغو. فعلى مدى الأشهر التي سبقت المؤتمر، كانت أركان أميركا تهتز بسبب سلسلة من التطورات المأساوية؛ إذ تم اغتيال الدكتور مارتن لوثر كينج في أبريل؛ وقاد ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين المناهضين للحرب هم «إيوجين ماكارثي» و«روبرت كينيدي» و«جورج ماكجفرن» حملات قوية مناهضة لسياسات الرئيس الأميركي آنذاك «ليندون جونسون» في حرب فيتنام، وقد أجبر نجاح الحملات الثلاث جونسون على إعلان نيته الانسحاب من المنافسة، وفي بداية يونيو تم اغتيال كينيدي. وعندما اجتمع الديمقراطيون في شيكاغو خلال شهر أغسطس، كانوا لا يزالون يستجمعون قواهم من جراء صدمة تلك الأحداث. وقد كان المؤتمر ذاته يمثل حالة من الاضطراب جمعت كافة أطراف الصراع في تلك الفترة. وخارج المؤتمر كانت هناك مظاهرات عارمة ضد الحرب في فيتنام مصحوبة بتجمعات واسعة من قبل نشطاء ائتلاف «الثقافة المضادة». وفي مرحلة ما، قوبلت المظاهرات باستعراض غير متناسب للقوة من قبل الشرطة والجيش. وتواصلت المعركة، وخرجت الدبابات إلى الشوارع، وحدث ضرب وإطلاق قنابل غاز مسيل للدموع على المتظاهرين الذين كانوا يرددون «العالم بأسره يشاهد»، وفي ذلك الوقت كان ما يحدث في شوارع شيكاغو يشبه مشاهد القمع التي تحدث خلف «الستار الحديدي» في دول شرق أوروبا. وتطورت أحداث مماثلة لهذه المجريات داخل المؤتمر أيضاً، وبينما بدأت الإجراءات، حدثت معركة بين وفدي ولاية جورجيا على أيهما سيحصل على أوراق الاعتماد كي يمثل الولاية؛ تلك المجموعة من البيض، أو الوفد الذي يضم أعراقاً مختلطة وكان بينهم «جوليان بوند». وحدثت بعض المشادات، ولكن في نهاية المطاف، فازت القائمة المتآلفة بالحق في تمثيل الولاية. وبعد ذلك حدثت مواجهة أخرى، بسبب بند في برنامج المؤتمر خاص بمعارضة الحرب في فيتنام. واحتدمت المواجهة بقدر المظاهرات في الخارج. وفي النهاية هُزم المناهضون للحرب، ولكن في محاولة أخيرة لمواصلة احتجاجهم، قرر التقدميون في الحزب منافسة النظاميين على اختيار المرشح لمنصب نائب الرئيس، عضو مجلس الشيوخ «إد موسكي». وطرحوا اسم «جوليان بوند» كمرشح لهم كي ينال ترشيح الحزب إلى جانب المرشح الرئاسي للحزب «هوبرت هامفري»، ولكن «هامفري» الذي كان له سجل قوي في الحقوق المدنية وحقوق العمال أثناء عضويته في مجلس الشيوخ، كان قد عمل نائباً للرئيس جونسون، ومن ثم، كان الديمقراطيون المناهضون للحرب ينظرون إليه بريبة. وقد كان النظاميون في الحزب الذين أيدوا «موسكي» أقوياء بدرجة كبيرة وفازوا في ذلك اليوم. ونتيجة غضبهم من طريقة تعامل قيادة الحزب مع مخاوفهم واستخدام القوة القاسية ضد المتظاهرين، احتجت الوفود المناهضة للحرب في المؤتمر، ورددوا اسم مرشحهم «جوليان بوند». وفي محاولة فجّة للسيطرة على إجراءات المؤتمر، استدعت قيادة الحزب الشرطة التي استخدمت قوة غير ملائمة لبسط النظام. وفي اليوم الختامي للمؤتمر بعد أن ألقى «موسكي» و«هامفري» خطابي قبولهما ووقفا في منتصف المسرح، وسط البلونات والأوراق الملونة المتناثرة وصيحات الابتهاج من النظاميين في الحزب، حدث شيء مثير للاهتمام. فقد ترجّل على المسرح «جوليان بوند». وذهب باتجاه «هامفري» و«موسكي» وأمسك بيديهما. ومثل كثير من النشطاء الشباب في ذلك الوقت، أصابني ذلك المشهد بالذهول والانكسار. وبعد بضعة أعوام، أتيحت لي الفرصة كي أتحدث إلى «بوند»، عندما حضر لإلقاء محاضرة في الكلية التي كنت أدرس فيها. وسألته عن سبب ترجله على المسرح في تلك الليلة، وأخبرته بالشعور الذي انتابني آنذاك. وفي رده، أخبرني بأن هناك نوعين من الناس: أولئك الذين ينظرون إلى شرور العالم الحالي مثل الحرب والعنصرية والقمع ويقولون «سأثبت على مبادئي لأن الأمور ستزداد سوءاً ولن تتحسن لو تخليت عنها»، وهناك من يقولون: «سأبذل قصارى جهدي كي أرى ما إذا كان بوسعي على الأقل تحسين الأوضاع». وأضاف: «إنني من الفريق الثاني، لأنني إذا تبنيت وجهة النظر الأولى سأجعل كثيراً من الناس يواصلون المعاناة بينما أحتفظ بنقائي الأيديولوجي، وأرفض فعل أي شيء لمساعدتهم». وتابع: «وفي هذه المرحلة من المؤتمر الانتخابي لم تعد منافسة بين جوليان بوند ضد إد موسكي، وإنما كانت بين هوبرت هامفري وريتشارد نيكسون، وكان عليَّ أن أختار من ستؤدي مساعدته إلى جعل حياة الناس على الأقل أفضل ولو قليلاً». ولم أنس أنا ذلك الدرس وأناضل يومياً كي أطبقه. ولعل هذا هو السبب في أن أضيق ذرعاً بالمدافعين عن الأيديولوجيات من اليمين أو اليسار. فهم يرتدون ثوب النقاء بفخر كبير. ويلفظون بعجرفة أولئك الذين يختلفون معهم ولا يرون ضرورة للمشاركة في آراء متباينة. ولأنهم يرون أنفسهم حاملين ألوية الحقيقة المطلقة، فهم يسارعون بإدانة الآخرين، مثلما يقولون بـ«وضوح وإيمان راسخ». ولكنهم من أعلى قمة نقائهم، كثيراً ما ينأون بأنفسهم عن مستنقع الواقع الذي يعيشه كثير منا والاختيارات الصعبة التي تكون غالباً بعيدة عن الكمال ونواجهها في التحدي المتواصل الذي نجابهه كي نجعل حياتنا أفضل، سواء على صعيد النضال من أجل حقوق الإنسان والمساواة، أو توفير الأمن لأولئك المعرضين للخطر.