تعلمون الكثير عن أحوال الناس، سواء في الحرب أو المنفى أو كليهما. وقبل أيام قليلة بهرتني صورة لصف يضم خمسة أطفال حديثي الولادة في أحد المرافق الطبية التي تديرها الأمم المتحدة في غزة. وكان هؤلاء الرضع، مثل سائر المواليد في جميع العالم، مدثرين في ملابس بيضاء وصفراء وحمراء وزرقاء. كانت أيديهم وأرجلهم الصغيرة تمتد هنا وهناك مبشرة بالحياة والأمل وسط الدمار الذي يحيط بهم. معظم الإسرائيليين لا يرون هذه الصور، كما أعتقد، ولكن ينبغي عليهم رؤيتها، لأن هؤلاء الرضع يذكروننا بالطريقة التي يتصرف بها الرجال والنساء في المنفى، وكيف تستمر الأمة، وكيف يتصرف شعب حتى تنتهي فترة المنفى واللجوء، مهما طالت. ولنرجع إلى الأطفال الخمسة حديثي الولادة، فقد كان بينهم ولد (كما أتخيل، حيث إنه يتعذر تحديد الجنس من الصورة) يرقد على اليسار على ظهره، رافعاً ساقه اليمنى في الهواء أعلى قليلاً من اليسرى؛ ربما يتأهب مبكراً لممارسة لعبة كرة القدم أو ركوب الدراجات. وبجانبه كانت ترقد طفلة في رداء ناعم أصفر يتألف من قطعة واحدة ومزين برسومات كرتونية، وكانت تمد يدها لتهمز أذن الصبي الذي يرقد على يسارها. وفي المنتصف، كان هناك رضيع آخر يرتدي ملابس بيضاء، ويرفع ساقيه في الهواء. وعلى يمينه كان ينام العملاق في هذه المجموعة، وهو طفل ضخم يبلغ حجمه ضعف حجم الآخرين، وهو مدثر تماماً في بطانية من اللونين الأصفر والبرتقالي، ويبدو وكأنه نائم، ربما بسبب الإفراط في استهلاك الحليب. وعلى يسار الصورة، كانت ترقد الرضيعة الخامسة، مرتدية ملابس متأنقة مثل الآخرين ووجهها ملتفت إلى رفاقها، ربما تحاول التقاط بعض النصائح المفيدة في مرحلة الطفولة. وعلى مقربة من الخمسة، كانت الأمهات يقفن أو يجلسن ويمسدن مواليدهن أو يحملقن فيهم بأشعة الحب التي تخرج من أعين الأمهات كأشعة الليزر، وهي أقوى أشكال الحب والمودة في الجنس البشري. وعلى حواف الصورة، كانت هناك فتاتان صغيرتان، إحداهما تحدق للأمام، وتضع يدها على جبينها، وكأنما تتساءل: متى تنتهي محنة غزة. فقد كانت هذه الطفلة التي تبلغ من العمر سبعة أو ثمانية أعوام كبيرة بما يكفي لتشهد العديد من الحروب والكثير من الآلام. أما الطفلة الأخرى، وربما تبلغ من العمر ثلاث سنوات، فكانت تقف خلف إحدى عاملات الصحة التابعات للأمم المتحدة، وتختلس النظرات على المشهد، كما لو كانت تشعر بالفزع من الخروج إلى العالم المخيف. وقد قرأت للتو أن 344 طفلاً فلسطينياً قد ولدوا في مرافق الأمم المتحدة خلال الشهر الماضي من القتال. كما ولد الكثيرون في أماكن أخرى من قطاع غزة. وقد توفي نحو ألفين من الفلسطينيين خلال الهجمات التي تعرضت لها غزة، لكن المئات يولدون كل شهر، ما يعني أن عدد السكان في ازدياد مستمر بمعدلات سريعة. ومنذ السبي البابلي لليهود في القرن السادس قبل الميلاد، كانت المجتمعات المنفية في كل مكان تعبّر عن معاناتها خلال المحن. وكانت تتضرع لآلهتها التماساً للمساعدة والحماية. وبعد ذلك تنشغل هذه المجتمعات بمسألة البقاء والحفاظ على الطقوس الاجتماعية. وفي النهاية، إذا ما أتيحت لها الفرصة، فهي تجتهد في العودة إلى الوطن. إن المنفى يحطم الصلات بين أي شعب وأرض أجداده، لذلك فهو عادة ما يشحذ ويعمق الهوية الوطنية للمنفيين أنفسهم. لكن دائماً ما تستمر الحياة أثناء المنفى، والأمل لا يموت أبداً، ويولد العديد والعديد من الأطفال كل عام. ينبغي على الإسرائيليين أن يتأملوا هذه القضايا لأن المنفى الفلسطيني منذ عام 1948 زاد حتى الآن على المنفى البابلي اليهودي بأربعة عشر عاماً. إن الـ750 ألف فلسطيني الذين فروا أو طردوا قسراً من منازلهم عامي 1947 و1948 أثناء إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين يبلغ عددهم الآن سبعة ملايين. هؤلاء المواليد يمثلون الجيل الرابع الذي يولد في المنفى؛ ومثلما هي الحال مع أسلافهم، فهم سيكبرون ويسعون قبل أي شيء لإنهاء لجوئهم. ويجب أن يكون اليهود هم أول من يفهم في العالم هذه الحالة من التوق. ويواصل الفلسطينيون العيش في الأغلب على بعد مئات قليلة من الأميال من ديار أجدادهم، في مخيمات اللاجئين أو مندمجين في المجتمعات العربية. إنهم يقاتلون ويموتون عندما يشعرون بأن الحاجة تقتضي ذلك. لكنهم في الغالب يحتفلون بمباهج الحياة قدر استطاعتهم. وهم يؤكدون مجدداً اليوم -344 مرة في غزة وحدها الشهر الماضي- أنه لا توجد فرحة أكبر في الحياة أكثر من الحياة الجديدة نفسها. ومن ناحية أخرى، ووفقاً لإحصاءات رسمية من مركز الإحصاء الفلسطيني سنة 2013، يبلغ مجموع سكان الأراضي الفلسطينية حوالي أربعة ملايين و420 ألف نسمة، منها مليون و700 ألف في قطاع غزة، ويصل معدل الخصوبة في فلسطين ككل 4.4 مولود للمرأة الواحدة، وتبلغ نسبتها في غزة 5.2، كما يبلغ معدل المواليد الخام بالقطاع 37.1 في المئة. وكان عدد المواليد قد بلغ في إسرائيل سنة 2013، نحو 161 ألف مولود، بينهم 82.437 ذكراً و78.312 أنثى، بينما تصل نسبة الخصوبة عند النساء الإسرائيليات 2.65 مولود لكل امرأة. والخصوبة الكبيرة في الأراضي الفلسطينية تعود إلى أسباب كثيرة، منها الزواج المبكر للفلسطينيات مقارنة بالإسرائيليات، والرغبة في الإنجاب، ووعي الأسر الفلسطينية بأن الأبناء يشكلون ضمانة لاستمرار وجودهم في أرضهم. رامي خوري مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية ببيروت ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»