على مرّ التاريخ استخدمت الحكومات والجيوش عمليات التجسس والاغتيالات والعملاء السريين. ونظم المصريون القدماء هذه الأنشطة تنظيماً دقيقاً، واستخدم العبرانيون عملاء الاستخبارات أيضاً. وانتشرت الشبكات في الإمبراطوريات اليونانية والرومانية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر، واعتمد المغول اعتماداً كبيراً على هذه الأنشطة أثناء فتوحاتهم في آسيا وأوروبا. وتطورت وسائل التجسس الحديثة بشكل كبير على مدى قرون. وقد تكشفت خلال الأسابيع القليلة الماضية فضيحة تجسس جديدة، عندما أعلنت الاستخبارات الألمانية توقيف أحد عناصرها لقيامه بالتجسس لحساب الولايات المتحدة، مطالبة واشنطن بتفسير سريع وواضح. بيد أن تاريخ العلاقات بين واشنطن وبرلين مليء بحكايات التجسس. وفي كتابه الجديد «العميل المزدوج: بطل الحرب العالمية الثانية الأول، وكيفية خداع مكتب التحقيقات الفيدرالي لشبكة تجسس نازية وتدميرها»، يسرد المؤلف «بيتر دوفي» قصة المواطن الأميركي «ويليام سيبولد» المولود في ألمانيا، والذي أصبح في عام 1940 أول عميل مزدوج لصالح «مكتب التحقيقات الفيدرالي»، وأحبط شبكة كانت تحصل على الأسرار التكنولوجية وتعطيها لألمانيا كي تصبح لها اليد العليا في غزو أوروبا. وتناول الكتاب تفاصيل عمل «سيبولد» مع مكتب التحقيقات الفيدرالي وتسلله بين صفوف شبكة «دوكويسن» الجاسوسية، التي كانت تنشط في مدينة نيويورك وتعتبر من أكبر الشبكات في التاريخ الأميركي. ويلقي الكتاب الضوء على محاولة النظام النازي تجنيد «سيبولد» في عام 1939 أثناء تواجده في ألمانيا لزيارة والدته. وفاتحه النازيون، الذين أعجبتهم الوظيفة المتدنية التي كان «سيبولد» يشغلها في نيويورك، محاولين تجنيده ليصبح جاسوساً في المدينة تحت التهديد بالموت. وكان الكولونيل «نيكولاس ريتر»، رئيس وحدة التجسس العسكري في الجيش الألماني، يحتاج إلى رجل ينقل المعلومات من جواسيسه في الميدان إلى أيدي الألمان، واختار «سيبولد» لهذا العمل. ولكن بدلا من أن ينصاع «سيبولد» للتهديدات تواصل سراً مع إحدى القنصليات الأميركية في ألمانيا، وأخبرهم بما أجبر عليه. وأعيد «سيبولد» إلى الولايات المتحدة، حيث التقى مسؤولين من مكتب التحقيقات الفيدرالي، وضعوا خطة جديدة له. وأبلغ «سيبولد» مكتب التحقيقات عن الجواسيس الذين يعملون بالفعل في أميركا، وبمساعدة العملاء الفيدراليين، افتتح محلا في نيويورك لجمع معلومات عن الأميركيين الذين يعملون لحساب النظام النازي. ومع تدرجه في سلم مجتمع التجسس الألماني داخل الولايات المتحدة، أسس «سيبولد» مكتباً زائفاً في ميدان «التايمز» كي يسلمه فيه أفراد الشبكة المعلومات. وكان من بين الجواسيس الضالعين في المؤامرة «فريديرك دوكويسن»، قائد المجموعة الذي كان محارباً سابقاً ومتعاطفاً مع النازية وشخصاً غريب الأطوار يضع نظارة أحادية العدسة، ويعمل في أحد مكاتب «وول ستريت». وحسب الكتاب، كان «دوكويسن» المسؤول الأول عن تنسيق الشبكة الجاسوسية في الولايات المتحدة. وكان يحصل من الشركات الأميركية، مثل «جرومان إيركرافت» الهندسية، على صور وخطط تطوير التكنولوجيا من أجل إعداد محاضرات لموظفيها. لكنه كان يسلمها للنازيين، وقبل عمله في التجسس، كان «دوكويسن» يعمل صحفياً لدى صحيفة «نيويورك هيرالد». وأشار «دوفي» إلى أن انخراط «سيبولد» في شبكة التجسس النازية زاد عمقاً، وهو ما سمح له بتأسيس نظام مراسلة تلغرافي في كوخ صغير على جزيرة «لونج آيلاند». وفي يونيو 1941، ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض على 33 جاسوساً نازياً في نيويورك. وتمت إدانة 16 منهم. وحرم سقوط شبكة الجواسيس «أدولف هتلر» من مساعدة كان في أمس الحاجة إليها، وحكم على أفراد الشبكة في 12 ديسمبر 1941، أي بعد يوم واحد من إعلان الولايات المتحدة الحرب رسمياً على ألمانيا وإيطاليا. وذكر «دوفي» أن «سيبولد»، بعد انتهاء عمله مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، تمت حمايته بموجبه برنامج الشهود، وتم نقله إلى كاليفورنيا. لكن حياته تحولت إلى جحيم بسبب اعتلال صحته وخوفه المبرر من انتقام بقايا النازيين. وأخبرته عائلته في إحدى الرسائل أن عملاء الاستخبارات الألمان يسعون للثأر منه. وفي نهاية المطاف، نقل إلى مستشفى «نابا» بولاية كاليفورنيا، حيث أصيب بانهيار عصبي، وتم تشخيص حالته باكتئاب جنوني، ومات نتيجة أزمة قلبية بعد خمسة أعوام. وائل بدران الكتاب: العميل المزدوج المؤلف: بيتر دوفي الناشر: سكريبنر تاريخ النشر: 2014