لقد همس الرئيس العراقي فؤاد معصوم في الحادي عشر من الشهر الجاري لحيدر العبادي أثناء تكليفه بتشكيل الحكومة قائلاً: «البلاد بين يديك». وأضاف عضو في البرلمان: «أعانكم الله». وفي الحقيقة بعد تنحي المالكي عن منصب رئيس الوزراء الأسبوع الماضي، لن يتمكن العبادي والعراق من تفادي الانزلاق في حرب أهلية كاملة الأركان، إلا إذا أدركت عون الله ولطفه البلاد والعباد. وقد شاركت في تشكيل كافة الحكومات العراقية الخمس بين عامي 2003 و2010، وأعلم أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة ومضطربة وعنيفة، بينما يحاول كافة زعماء الفصائل المختلفة المناورة من أجل نيل السلطة والمال، بغية المساعدة على تمثيل مجتمعاتهم والحصول على قطعة من كعكة مليارات الدولارات الحكومية. وبعد إنفاق ما يربو على تريليون دولار، وفقدان نحو 4500 جندي، لا يمكن للسياسيين الأميركيين أيضاً تحمل كشف سرّ قبيح هو: أن العراق منذ عام 2003 تحول إلى مزيج من لبنان ونيجيريا -وهي تشكيلة سامّة من السياسة الطائفية والعائدات النفطية- يدعمه الفساد الحكومي. وقد هيمن التنافس الديني والفساد المستشري بشكل وبائي على الحكومة العراقية، وهو ما يتضح بما لا يدع مجالاً للشك من أزمة الكهرباء المتواصلة، وانهيار كتائب الجيش العراقي بأسرها في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف باسم «داعش» في الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، على رغم تفوق الجنود العراقيين على مسلحي التنظيم عدداً وعتاداً. وخلال القرن الماضي، واجه العراق عدداً من الحروب الإقليمية، والاستعمار البريطاني، وسلسلة من الانقلابات العسكرية، والاجتياحات الكارثية لدول الجوار مثل إيران والكويت، والعقوبات الدولية، والاحتلال العسكري الأميركي، وما يربو على أربعة عقود من سوء الحكم في ظل نظامي صدام حسين والمالكي. وبعد أن كان مركزاً للثقافة والفلسفة والتجارة العربية، أضحى العراق اليوم دولة منبوذة على الصعيد الدولي وحاضنة للإرهاب العابر للدول، حيث تتدخل فيه قوى إقليمية في حرب دامية بالوكالة تهدد بالانتشار عبر الحدود وزعزعة الاستقرار في ربوع المنطقة بأسرها. وقد ورث العبادي دولة مثقلة بالمشاكل المزمنة وعلى شفا الانهيار. وسواء أكان العراق سيتحطم أو سينجو فهو أمر ليس في يد رئيس الوزراء الجديد وحده. وإنما يعتمد على عدد من الزعماء والأحزاب السياسية والقوى الفاعلة ودول وقوى مجاورة وعالمية أخرى. وبقبوله منصب رئيس الوزراء، قبل العبادي بلاشك لعب دور قائد أوركسترا العراق لعزف سمفونية سياسية ما زالت غير متناغمة. وبالطبع ستكون قدرته على تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل العراقيين من كافة المشارب والأيديولوجيات السياسية بصورة عادلة أمراً حاسماً وبالغ الأهمية. وبعد تشكيل فريقه، سيكون على وزرائه أيضاً بذل كل ما في وسعهم من جهد والتعاون بشكل غير مسبوق منذ ثورة عام 1958 إذا كانوا يرغبون في تفادي حرب أهلية مريرة، يمكن أن تشهد على الأرجح مشاركة إقليمية واسعة النطاق في إطار حرب دينية بين السُّنة والشيعة. وفي الحقيقة، للمرة الأولى منذ عام 2003، يخرج أبرز ثلاثة زعماء في العراق، الشيعي حيدر العبادي، والرئيس الكردي فؤاد معصوم، والرئيس السني للبرلمان سليم الجبوري، كلهم من البرلمان العراقي، حيث تعاونوا على مدار العقد الماضي في تمرير التشريعات ونزع فتيل كثير من الأزمات. وعلى رغم ذلك، تواجههم في الوقت الراهن تحديات مرعبة. فقد أدت عقود من سوء استغلال الحكم إلى انتشار الطائفية والفساد وأسهمت في تجفيف العقول، في وقت تجد الدولة نفسها فيه عملياً في أمسِّ الحاجة إلى المواهب، وقد أضرت هذه السنوات بالقوى المعتدلة وعززت الاستقطاب في المجتمعات السنية والشيعية والكردية في العراق، ومكنت للمتعصبين من كافة الفصائل، وانتمى بعض منهم صراحة إلى ميليشيات شيعية مدعومة من إيران، وانضمت عناصر سنية كانت تابعة لحزب «البعث» إلى تنظيم «داعش» أو «القاعدة». وحتى الأكراد العلمانيون المعتدلون الموالون عادة للولايات المتحدة ثبت مؤخراً أنهم هم أيضاً محبطون بدرجة جعلتهم ينتمون إلى جماعة «حزب العمال الكردستاني» الإرهابية، بعد أن خاضوا حرباً ضارية ضدها في السابق. وستكون قدرة العبادي وشركائه في العملية السياسية على نزع فتيل الأزمات وكف ضرر هؤلاء المتعصبين المدججين بالسلاح من كافة الأطراف مفتاحاً لاستمرار العراق كدولة موحدة مستقرة. وبالطبع، لابد من هزيمة «داعش». وقد كان أحد أسباب تفاقم خطره إنكار حقوق السنة العراقيين. وإذا انقلب السنة على التنظيم، وهم مستعدون لفعل ذلك، فهم يخاطرون، أيضاً، باحتمال التعرض للإبادة على أيدي المسلحين الشيعة في غضون عام أو عامين. ولن يكون من السهل تكرار «صحوة» العشائر السنية التي حدثت خلال الفترة من 2006 إلى 2010، عندما انقلبت القبائل السنية في وسط وغرب العراق ضد مقاتلي تنظيم «القاعدة». ويرجع ذلك إلى أن بغداد وواشنطن نكثتا بوعودهما لأفراد هذه القبائل في عام 2010، بعد أن فاز ائتلاف القائمة «العراقية» العلماني بعدد من المقاعد أكثر من ائتلاف المالكي، ولكنه حُرم من فرصة تشكيل الحكومة بسبب سيطرة المالكي على الهيئات القضائية. وسيعتمد بقاء العراق كدولة قوية موحدة على الفريق الذي سيختاره العبادي ليحيط به خلال الساعات والأيام والأسابيع المقبلة. وإذا واصل رئيس الوزراء المكلف نهج المالكي وعين موظفين فاسدين في مكتبه يتفاخرون بالطائفية ويتعاطفون مع المؤامرات الإيرانية، وينفرون من السنة والأكراد والشيعة العلمانيين، فلن ينجو العراق مما يحدق به من كوارث. ولكن إذا اختار العبادي إحاطة نفسه بوزراء تكنوقراط أذكياء ومعتدلين من كافة الفصائل الدينية والإثنية، فإن احتمالات نجاحه ستكون كبيرة أيضاً. ولكن حتى الآن، لا أرى دلالة على أنه سيكون هناك ما يكفي من التسامح والرغبة بين الفرقاء العراقيين كي يعفوا ويصفحوا ويمضوا قدماً من أجل كسب رهان مستقبل بلادهم. وآمل من كل قلبي أن أكون مخطئاً. فقد زرت مستشفى «والتر ريد» ومقبرة «أرلينجتون» الوطنية مرات كثيرة. وحضرت دفن عدد كبير من الأصدقاء والزملاء العراقيين منذ عام 2003، بما في ذلك اثنان من أعضاء المجلس الحاكم في العراق. وإنني لأدعو يومياً أن تمهد تضحيات العراقيين في النهاية الطريق لشيء عظيم. ومن حق العراق أن يصبح من أقوى وأغنى الدول على الأرض، برأسماله البشري، وموقعه الاستراتيجي، واحتياطياته الضخمة من النفط والغاز، ونهريه العظيمين. علي الخضيري مساعد سابق لخمسة من السفراء الأميركيين لدى العراق يُنشر بترتيب خاص مع «خدمة نيويورك تايمز»