من بين الفوائد التي تحققها استطلاعات الرأي، إلى جانب الوقوف على حقيقة ما يجري، المساعدة على معرفة ما سيأتي أو على الأقل تحصيل بعض المؤشرات التي تعين على الاقتراب منه، وإمكانية التدخل لتطويره وتعديله أو تغييره أو التصرف على نحو يساعد على تلافي الأخطاء وتجنب المزالق، وذلك اتكاءً على ما جادت به الاستطلاعات وأظهرته، إيجابياً كان أم سلبياً. ولهذا فإن استطلاعات الرأي تعد وسيلة مهمة لصانعي القرار في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، حيث تعينهم على إصدار قرار رشيد، الأمر الذي من شأنه أن يزيد صدقية المؤسسة أو المسؤول أمام الجمهور. ومن ثم فإن الاستطلاعات وسيلة لنظام الحكم ليقف على مدى رضى المحكومين عن سياساته، وأداة دعاية انتخابية للمرشحين في الانتخابات ببلدان ديمقراطية عديدة، وأداة تسويقية أيضاً لأصحاب الشركات الراغبين في الوقوف على رأي المستهلكين من السلع التي ينتجونها. وهي كذلك أداة بحثية بالنسبة للأكاديميين الراغبين في تعميق فهم الظواهر التي يتصدون لدراستها، وأداة توعوية بالنسبة لعموم الناس المنشغلين بحيازة معلومات عن مختلف القضايا المطروحة. ويبدأ الاستطلاع بمعرفة «مجتمع الدراسة» الذي تم تحديده وفقاً للهدف من الاستطلاع، فإذا كان مثلاً عن المشاركة في الانتخابات يكون المجتمع هنا هو البالغون الذين لهم حق الانتخاب، أما إن كان استطلاعاً عن الدروس الخصوصية فإن المجتمع هنا يكون الأسر التي لديها أبناء في مختلف مراحل التعليم. وبعد هذا تأتي مرحلة أخذ عينة تعبر عن المجتمع المدروس تعبيراً صادقاً وأميناً بقدر المستطاع، سواء كانت عيِّنة عشوائية بسيطة Simple Random Sampling تعطي كل شخص في المجتمع فرصة متساوية في الظهور في العيِّنة أو عيِّنة عشوائية طبقية Stratified Random Sampling تنفع في تمثيل كل فئات المجتمع غير المتجانس أو عيِّنة منتظمةSystematic Sampling يتم خلالها وضع المفردات في قائمة وتحديد أول مفردة في العينة بطريقة عشوائية، ثم يتم اختيار بقية مفردات العيِّنة بطريقة منتظمة، وعينة عنقودية Cluster Sampling يتم فيها تقسيم المجتمع إلى مجموعات جزئية ثم اختيار عينة منها عشوائياً سواء على مرحلة واحدة أم مرحلتين. ولضبط العينات يمكن استخدام أدوات مثل «الأوزان النسبية» و«خطأ المعاينة» و«معدل الرفض» بما يجعل العينة ممثلة للمجتمع، وبالتالي يمكن تعميم نتائج الاستطلاع الذي يجري عليها، ويكون بإمكان المستطلعين أن يتحدثوا عن مواقف واتجاهات وسمات المجتمع بأسره في فترة معينة. وهذه الاحترازات إن واكبها «تحليل كيفي»، على اعتبار أن الاستطلاع شكل من أشكال التحليل الكمي، وكذلك إجراء مقابلات معمقة، ثم التبصر أو التأمل في معطيات الاستطلاع ونتائجه، فبوسعه في ضوئها أن يمدنا بوسيلة مهمة للتنبؤ أو يكون بمثابة عنصر من عناصر صناعة «خيال سياسي» علمي أو تمهيد لهذا الأمر. لكن قدرة الاستطلاعات على التنبؤ تتطلب ابتداء سلامة هذه الاستطلاعات وتنزيهها عن بعض الأغراض المعوجة، وهي مسألة لا توفرها الاحترازات السابق ذكرها بل تعتمد على أمور أخرى منها على سبيل المثال: أ - ينبغي أن تصمم أسئلة استطلاعات الرأي، شكلاً ومضموناً، بما يلائم المجتمع الذي يجري فيه الاستطلاع. فبعض الأشكال والمضامين المعدة لمجتمع معين قد لا تصلح بالضرورة في سياق مغاير، وإن تم الاعتماد عليها فقد لا تأتي نتائجها دقيقة بكيفية تساعدنا على التنبؤ بسلوك المجتمع المبحوث واتجاهاته. فما يصلح للمجتمعات المنفتحة الحرة التي يشعر أفرادها بالاقتدار السياسي، والذين قد تلقوا تعليماً يساعدهم على التفكير العلمي، لا ينفع في مجتمعات منغلقة ومقيدة، وأفرادها يفقدون الثقة في أنفسهم، وقد تنمو فيها الشائعات والخرافات، ويعتمد الناس على الثقافة السمعية في تحصيل المعرفة، ويغيب التفكير العلمي بما يجعل أفرادها مفتقرين القدرة على الشك والنقد والتفنيد والتحليل واكتشاف المغالطات المنطقية والرد عليها. ب ـ تدريب الباحثين على استكناه المستقبل، فالقائمون بالاستطلاع هم أناس تم تكوينهم في الماضي، وفق معطياته وشروطه ورهاناته، وحتى الحاضر الذي يعيشون فيه هو ماضٍ بالنسبة لمن وما سيأتي في المستقبل، وبالتالي فهؤلاء يسحبون أحياناً معرفتهم بالماضي على المستقبل، بما يخل بدقة النتائج وقدرة المنتج على التنبؤ بالآتي. ج ـ ضرورة أن يكون هناك ضبط ومراقبة على الاستطلاعات حتى لا تستخدم، من خلال نتائج محددة سلفاً، في تزييف الوعي بما يؤدي إلى دفع الناس في اتجاه معين يخدم مصلحة الأطراف التي تقف وراء الاستطلاع سواء كانت السلطة السياسية أو مرشحين في الانتخابات أو أصحاب الشركات. وقد يأتي الضبط المطلوب من قبل المجتمع، وذلك بواسطة مؤسساته وقادة الرأي فيه، والذين يجب أن ينزعوا باستمرار إلى ضرورة أن تكون الأدوات المنهجية للاستطلاعات علمية من حيث الدقة والنزاهة والتجرد والحياد. وقد يأتي الضبط من خلال تشريعات وقوانين تحدد عقوبات على كل من يزيف استطلاعات الرأي أو يختلق نتائج سواء بالتزوير أو بطرح أسئلة إيحائية، بغية استخدام النتيجة في تزييف وعي الجمهور. دـ ضرورة أن تتمتع وحدات قياس الرأي العام بالاستقلال المالي والإداري، وأن تعلن بكل شفافية الجهات التي تمولها عن طريق الهِبات المقطوعة والتبرعات المنتظمة. وإذا كان المستطلعون تابعين لوزارة أو حزب سياسي أو شركة خاصة فلابد من ضبط الاستطلاع عن طريق الرقابة والخضوع للقانون، علاوة على المسائل المنهجية والشكلية والمضمونية والقواعد المهنية والأخلاقية. ومن دون شك فإن أخذ هذه الضوابط في الحسبان يزيد من قدرة استطلاع الرأي على التنبؤ بسلوك المجتمع المبحوث أو المستطلع رأيه، مع الأخذ في الاعتبار أن النتائج هنا لا تعطينا بدقة ما سيأتي في المستقبل المنظور بل تقربنا منه أو تكشف بعض جوانبه أمامنا فحسب.