ما يزال الغموض يلف حكاية ظهور «داعش» ونموها ومفاجأتها المدهشة للعالم بإعلان دولة «الخلافة»، وقد كبرت الاتهامات والتكهنات، فهناك من يرون أن التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي خرجت عن شعارات الشعب السوري لقيت تشجيعاً من النظام وغض الطرف عنها كي يجد مبرراً لمتابعة قمع الثورة، وإحراج داعميها الذين سيجدون أنفسهم يدعمون إرهاباً. وهناك من يرون أن الولايات المتحدة نفسها عملت على تشتيت المعارضة وإضعاف الجيش الحر، وإهمال المعتدلين من المطالبين بدولة مدنية وبالحرية والديمقراطية، فجاء المتطرفون من كل أصقاع العالم واختطفوا الثورة السورية وأهدافها ليعلنوا دولة الخلافة وليبدؤوا مسيرتهم السياسية بقطع الرؤوس وبتر الأيدي دون محاكمات علنية! ويرى بعض المحللين أن دعم تنظيمات التطرف كان الوسيلة الأنجع لجعل المجتمع الدولي يعيد النظر في موقفه من القضية السورية، ومن ثم يعيد تأهيل النظام ويدعو إلى التحالف معه في حرب أشمل ضد الإرهاب، وهذا ما حدث. ولكن لا توجد أدلة قوية على هذه الفرضيات، وبالوسع نقضها بكون النظام يعرف أن هذه التنظيمات ستنقلب عليه، وستكون في حربها ضده أشد شراسة من الحرب ضد ضباط الجيش الحر الذين هم جنوده وضباطه أصلاً، وخلافهم مع النظام على رغم التراكمات كان منحصراً في رفضهم للحل الأمني الذي طالبهم بقتل أهلهم وقصف مدنهم، ولولا هذا الحرج لبقوا في جيشهم النظامي، وكان بوسع النظام أن يجد حلاً سياسياً معهم لو شاء لأنهم معتدلون ومطالبهم مدنية صرفة. ومع أن المعارضة والجيش الحر مسؤولان عما حدث بينهم لاحقاً من شقاق وتنافس على المال والسلاح والمناصب إلا أن أصدقاء سوريا مسؤولون أكثر منهم عن حالة التشتت والضياع التي تمت صناعتها قسراً وعبر خطة مدروسة أفقدت المعارضة السياسية والعسكرية كثيراً من مكانتها عند الشعب السوري قبل أن تفقد ما لقيت من احترام دولي. ولم يعد السوريون يطمئنون إلى دعم المجتمع الدولي منذ أن غض بصره عن جريمة الكيماوي في غوطة دمشق واكتفى بمصادرة السلاح دون أن يعاقب الذين ارتكبوا الجريمة، وهي إلى اليوم أخطر من كل جرائم «داعش» و«حالش» الإرهابية؟ وقد فجع السوريون منذ أن أعلن أصدقاؤهم أنهم قلقون فقط على مستقبل إسرائيل، فهم يخافون أن تقع الأسلحة النوعية في اليد الخطأ التي يمكن أن تستخدمها ضد إسرائيل إذا سقط النظام! وتم التغاضي الدولي عن القتل والتدمير اليومي بالبراميل المتفجرة التي لا تحدد أهدافاً، وكلها سقطت على المدنيين، وتضاعف عدد المعتقلين والموتى تحت التعذيب، وصار المشردون والنازحون واللّاجئون يعدون بالملايين. وبعد فشل مؤتمر جنيف في الوصول إلى حل سياسي فقد السوريون الأمل بالوصول إلى حل، فنشطت التنظيمات المتطرفة للتغرير بالشباب اليائسين، وعزفت على لحن أمجاد الدين والتاريخ، وأفادت من وضع التهميش القاتل لأهل السُّنة في العراق وسوريا، ونهض مشروع «الدولة الإسلامية» المزعومة، ولكنه بدا مشروعاً خاوياً من الحكمة ومن السياسة ومريباً في خوائه، ولا أظن ذلك جهلاً أو غباء سياسياً فحسب، وإنما بدا الخطاب كأنه مشهد تمثيلي من مسلسل دموي يراد أن تغرق فيه بلاد الشام والعراق. وكان الحديث عن السيف مرجفاً ومثيراً، وقد جاءت ممارسات «داعش» عجيبة كأنها تتقصد الإساءة للإسلام، وجاء طرد المسيحيين وقتل الإيزيديين والتحرش بالأكراد دليلاً واضحاً على أن الهدف ليس بناء «دولة»، وإنما هو فتح ساحة فوضى وتمهيد لحرب دولية ضد العراق وبلاد الشام ستمتد إلى سنوات طويلة، كما كان الأمر في أفغانستان يوم ظهرت «طالبان» فكان أول ما فعلته هدم تمثال بوذا وملاحقة ممرضات مسيحيات والبدء بالجلد وقطع الرؤوس وحظر تعليم النساء، ولهذا لم تنجح «طالبان» سوى في القتل والإجرام، وما أظن أن الأفغان كانوا يحتاجون لمن يقول لهم ما هكذا تبنى الدول. والأمر يتكرر اليوم، وقد بدأ يحقق مآرب من يدعمون «داعش»، فقد استدعت تصرفاتها المحسوبة على الإسلام هجوماً واسعاً على الدين كله، وعلى أهل السنة الذين قد تحسب التجربة عليهم، دون وجه حق، فتقدم حجة للوزير لافروف الذي قال قبل عام: «لن نسمح لأهل السنة أن يصلوا إلى الحكم في سوريا»! ومهما تكن الظروف الراهنة قاسية فإن المطلوب عمله على الصعيد السوري هو مواجهة هذا التحدي الأكبر الذي يهدد سوريا بأن تكون ساحة حرب عالمية ضد الإرهاب يقتل فيها من لم يقتلوا بعد من المدنيين الأبرياء الباحثين عن الحياة وعن الكرامة الإنسانية، ويتم تدمير ما بقي قائماً من البنى التحتية والمدنية، ويتم نسيان وإهمال فواجع المشردين فيبقون في المخيمات عقوداً قادمة كما بقي الفلسطينيون. وستدفع كل الطوائف ثمن هذه الحرب، ثم لا ينفع ندم ولا رثاء، والحل المتاح أن يسمو السوريون جميعاً إلى مرتبة فوق المعارضة والموالاة، وأن يخرج الرماديون من صمتهم، وأن يتداعى جميع السوريين إلى مؤتمر وطني شامل جامع، يكون مضمون شعاره الحفاظ على سوريا. ويمكن التأسيس على ما وافق عليه العالم في مؤتمر جنيف مرة أخرى، فالأحداث الراهنة تستدعي أن يراجع النظام موقفه، وأن تراجع المعارضة أداءها، ولابد من تقديم تنازلات من الطرفين، كما يحدث في كل مؤتمرات السلام، فقد كفانا ما خسرنا من دماء أبناء شعبنا، وما تعرضوا له من فواجع ومن فقر وتشرد وإذلال، ولابد من الاعتراف بأن مزيداً من العنف لن يحقق نصراً للنظام أو المعارضة، وإنما يحقق مزيداً من الدم المراق. وأدرك أن كثيراً من قادة المعارضة سيرفضون هذه الدعوة كما يرفضها النظام، وأذكّر بما قلت في هذه الصفحة مرات منذ ثلاث سنوات، إن سبب ما وقعنا فيه من كوارث هو الغرور والعناد، ولا حل إلا بالحوار، ولا بديل عنه سوى التقسيم واستمرار الحروب. ولكي ندرأ هذا المصير المحتمل يجب أن يتوافق السوريون على حل وسط، يتم من خلاله تشكيل جمعية وطنية تدعو لمراجعة الدستور، وأن تشهد سوريا مرحلة انتقالية ضمن رؤية جنيف، يتم فيها تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كل الأطياف بصلاحيات كاملة، ويعاد بناء الجيش الوطني وقوى الأمن بقيادة الحكومة وتحت سقف البرلمان، ولن أستبق ما يمكن أن يقرره السوريون، فهذه أفكار يتداولونها كل يوم، ولا طريق إليها سوى الحوار، قبل أن تلتهم النار ما تبقى من سوريا.