عندما يقوم عامة المسلمين بتلاوة القرآن يرددون صوت الحروف والكلمات فيه فقط، أما التفكر والتدبر فهو اختياري، ولذلك تجدنا ننتشي لجمال صوت قارئ متمكن، ونردد الله إعجاباً بحسن وحلاوة تلاوته ونخشع خوفاً ورجاءاً وندماً أو حباً. أما عقلنا في الغالب فهو في إجازة دائمة فلا نتجرأ أن نفكر أو نفهم معانيه بعمق، فالفقهاء ورجال الدين يكفوننا ذلك، وتلك المعضلة التي قادتنا لجمود وسكون حركة الفكر الفقهي، والذي يقرن أحياناً بحسن إسلام المرء لأتباعه ما كتبه الأئمة الكبار من التابعين وتابعي التابعين، والأئمة وشيوخ الدين الذين جاؤوا بعدهم مؤكدين ما ذكروه والإجماع عليه، وهو إجماع خاص بين الأئمة وأهل العلوم الدينية، وكأن الإسلام دين كنيسة أو مدينة فاضلة يطوقها جدار فقهي فاصل ليس لسائر الناس فيها أي دور، مما يقودنا لثقافة الاتصال العضوي بين العلوم الإسلامية والمصادر الرئيسية للتشريع، وكأن مقاصد الشريعة لا تتأثر، وتلون بمقاصد النفوس وطبائعها. فلم يكن مصطلح المقاصد في عصر التنزيل معروفاً، ولا عرف في عصر الصحابة والتابعين، فلما أصبحت العلوم صناعة، برز تدريجياً مصطلح المقاصد، ونحن نؤمن بالتخصص في العلوم. ولكن نرفض أن نضع تلك العلوم في نفس مكانة تقديس المصدر الرئيسي الأول وهو القرآن، فكل من تناول وكتب وشرح وعلق من الأئمة على أمر، فإن عمله قابل للنقد والتعديل. ولذلك يجب أن نتحدث عن صناعة المجامع الفقهية العلمية بعيداً عن التقليدية ومن دون تدخل في عمل تلك المجامع شريطة ألا تخالف فيما تنتجه مصالح البشرية وتراعي القيم الإنسانية العليا وكرامة الإنسان وحقوقه الدينية والدنيوية وتوضيح فلسفة التشريع بين قطعيات النصوص ومقاصد الشريعة، فكل مسألة خرجت عن العدل والرحمة وعن المصلحة إلى المفسدة والعبث، ليست من الشريعة، وإنْ دخلت فيها بالتأويل، فإن التيسير على الناس ورفع الحرج والمشقة عنهم يجب ألا يجعل التشريع مدونة قانونية وفي الوقت نفسه، عدم جعل مقاصد الشريعة مصطلحا فضفاضا، نعم هي لجلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها ولكن وفق فهم من؟ وهل هذا الفهم المتواتر والتدوين نص مقدس أم بشري قد يعتريه الخطأ؟ وما كان مفسدة في زمن هو ليس كذلك في زمن آخر. ومجموع الأحكام والآداب العامة التي شرعها الله تعالى للأمة بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات لإصلاح الناس وإسعادهم في المعاش والمعاد وحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل بين مقاصد عامة وخاصة وبين ضرورية وحاجية وتحسينية، لا بد وأن تمر بمسالك حتمية شخصنة العقل البشري بقصد أو من دون قصد لها في كل عصر وفق ما هو سائد ومتوفر من معرفة وميول وعادات فردية وجماعية، والتي تتداخل في تفسير وشرح مقاصد الشريعة حتى أصبح البعض يتهمها بالوضعية. وما أريد أن أرمي إليه هنا أن الدين يجب أن لا يتوقف على شخص، ولا على جماعة أو ثقافة. نحن اليوم أمام تحدٍ كبير نحتاج للتعامل معه بنظامية، وإخضاع الفقه لمراجعة تاريخية تعيد مسار ممارسة الإسلام بصورة عامة بما لا يترك لآراء البشر مجال لجعلها مسألة إيمان أو كفر، والإستمرار في نفقنا الفقهي المظلم لأن النتيجة واضحة للعيان. والمسلمون اليوم يُصنفون كأكبر خطر يواجه العالم، وبلادهم تعاني من التخلف في شتى النواحي حيث تجد أن 70% من الأوروبيين يحملون معهم كارت تبرع بأعضائهم بعد وفاتهم لإنقاذ حياة من يحتاجها من الأحياء والمسلمين مختلفون بين فتاوى من يجيز ذلك ومن يحرمه. وليس لدينا شك في أهمية أن تكون الآراء الدينية مدعومة من المتخصصين، ولكن من حق الشعوب أن تختار علماءها الذين يستفتونهم، فلا يكون رجل الدين متعصباً مثلاً أو فظاً وقاسياً في معاملته أو عنصرياً أو صاحب فكر منغلق رافض للتجديد، مقدس للرموز التاريخية، ولا يقبل التعددية وحرية الفكر، ولا يحترم قوانين الدولة الوطنية المدنية، أو غير مطلع على مختلف العلوم، أو لا يملك أو يحيط نفسه بفريق عمل متكامل، فعندما نمرض نختار الطبيب المصرح له بممارسة المهنة، والذي نرتاح له ونثق فيه لمعالجة أمراضنا. فما بالك بأمر يرتبط بآخرتنا وتقربنا من خالقنا ونيل رضوانه. ولو تعاملنا مع ملف الفتاوى الدينية بمنهجية علمية متجددة لما خرج علينا فقهاء الظلام والقتل والخراب أو فقهاء النظم الحاكمة الظالمة أو فقهاء رجال الأعمال غير المتفرغين للبحث العلمي، فالعامل المشترك هو خير البشرية وإحترام القوانين بعد تقنين الفقه وإدارجه ضمن القوانين الوضعية بعد تعديله بما يناسب الحاضر والمستقبل دون تعطيل الإبداع وحرية الإنسان وتحقيق العدالة لضمان سلامة النوع البشري وتعزيز التعايش السلمي بين الحضارات المختلفة. فمن المخجل حقاً الفتاوى الكارثية المخجلة التي يصدرها بعض الشيوخ، الذين يتصرفون كمرضى المراهقة المتأخرة، فهو كفقيه مستكمل لمواصفات الكاريزما الفقهية، ولكن الخلل في أدواته المنهجية ولذلك الفقيه اليوم لا يزال يحتفظ بالمنهجية الأصولية التي تعتمد قياس التشابه بين النوازل المعاصرة والنصوص التي عالجت واقعاً آخر تكاد تكون كل معالمه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية قد إختفت، مما أورثنا فقهاً ليس من واقعنا الآن، وبهذا أمسى الفكر الإسلامي اليوم فكراً تجريدياً وظل في مكان علوي لا يمس الواقع، فنحن في واد والكثير من جزئيات الفقه الإسلامي في واد آخر، ولا نكاد نجد فيه إلا أحكاماً لا يمكن أن تؤسس لنا بناءاً إقتصادياً وسياسياً وعلمياً للمجتمع الحديث. وأصبح الفقه الإسلامي على أثره قطاعاً خاصاً، إتسم بأنه غير رسمي، وفقه لا شعبي بين خاصة العلماء وموروث تغطيه خيوط العنكبوت في عصور شيطنة الدين، فوقعنا في وحل ومستنقع النسبية الفقهية ولا يزال المسلمين لا يقبلون حقوق الإنسان العالمية كما يفهمه بقية العالم وفي جدل بيزنطي حول ما تعنيه حقوق الإنسان في الإسلام ومحاولات يائسة لأسلمة المؤسسات العصرية بدلاً من إعادة الروح في الكتابات الفقهية بما يناسب العصر وربط الأحكام بحكمها وبيان أهدافها ومقاصدها، حتى تترسخ القناعات بمنطقية الأحكام الشرعية وعدم وجود صفة العبث فيها وتيسير وتبسيط الفقه بكتابته بلغة مبسطة وأسلوب سهل بعيد عن الإغراب في الألفاظ والتكلف في العبارات مع تجنب وعورة المصطلحات ومراعاة التوسط في الطرح ووضع قوانين ملزمة ومنظمة لحرية النقد والتجديد وإبداء الرأي وفهم وتفسير النص الديني وتداعياته بعيداً عن التكفير والترهيب والقذف والسب وإقصاء الآخر وفكره. نتائج الجمود والوكالات الحصرية لعلوم الدين وجعل فهم البشر معيار لصحة فهم الدين، كانت وخيمة على العالم أجمع في مختلف الديانات وظهرت علينا الجماعات والتنظيمات المتطرفة أو صاحبة الفهم الخاص، وبالنسبة لنا كمسلمين قد تم الخلط بين الشريعة والعقيدة وربط فهم العلماء ببناء مقاصد الشريعة وترسيخ الترادف كأساس للقياس والصدام بين السياق الفكري شبه الثابت للفقة مع السياق الفكري النقدي الديناميكي المتغير باستمرار مع تغير ظروف المجتمعات، وما يتعرض له الفرد والمجتمع من زيادة مضطردة في المحصول المعرفي للإنسانية، مما يبرز أهمية أن يقوم الفقه الإسلامي بمهام تحرير الإنسان وتمكينه من إعمار الأرض، وألا يتحول هو الآخر لعقبة أخرى تضاف إلى أزمة الواقع العربي والإسلامي.