الاصطفاف العربي لم يعد اليوم إلا في حدوده الدنيا، والتماسك العربي لم يعد من أولويات العمل السياسي لبعض الدول بل وأكثرها، فالصف العربي أضحى ممزقاً، وقد أحدثت شروخ عميقة في جدرانه وانفصام بيّن في جوانب شخصيته، وهذا التمزق يحمل الخطر كله والشر المستطير. فالثقة التي تحكم التجمعات الإقليمية بدأت تتلاشى، وبتعاظم فقدانها تكثر المشاكل الداخلية كما يتقوى عادة المتدخلون الأجانب... كما أن الهجمات المتوالية الداخلية والخارجية تقوض كل دعائم الوحدة والقوة والمناعة التي تسمح لأي نظام إقليمي بمجاراة الدول الكبرى، والتفاعل بإيجابية مع تأثيرات النظام الدولي... ومحنة العرب، على حالها، للأسف الشديد. وقد كان الفيلسوف الألماني هيغل يقول إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، وقد أيده في ذلك كارل ماركس الذي أضاف أنه يعيد نفسه المرة الأولى على شكل تراجيديا، وفي المرة الثانية على شكل كوميديا... وأظن أنه يعيد نفسه دائماً في وطننا العربي بشكل تراجيدي- كوميدي مؤلم للعرب، ومضحك للغربيين. وبعد نهاية الحرب الباردة كانت محنة العرب، كما كتب غسان سلامة، هي تماماً في تلك الإشكالية المستمرة القائمة من جانب، على وجودهم في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية، ومن جانب آخر، على تواضع عناصر القوة التي بحوزتهم للدفاع عن ذلك الموقع ولتعظيم الفوائد منه. ولذلك كان تأثرهم بالحرب الباردة كبيراً، يكاد يقترب من تأثر أوروبا بها، كما رأينا في تلك الفترة تأثرهم كبيراً أيضاً بالتحول الجاري نحو الأحادية القطبية. والموقع الحساس الذي يكون بحوزة اللاعب الضعيف يتحول بالضرورة من مصدر محتمل للنفوذ إلى عبء سياسي مُربك. وهذا ما يجعلنا نعتبر منطقتنا من دون مناعة كافية، حيث تخترقها التأثيرات الدولية بسبب حساسيتها، كما بسبب التشرذم الذي يمنعنا من تحويل هذه الحساسية إلى مصدر قوة بدلاً من أن تكون مغناطيساً يستثير رغبة الأقوياء بمد نفوذهم إليها... وتشرذم الوطن العربي اليوم يجعل بعضاً من دوله تخترقها تأثيرات دولية وإقليمية وداخلية مجتمعة وخطيرة، وهي تأثيرات متنامية ويصعب التكهن بها، وكلها سلبية وعاتية تأتي على الأخضر واليابس، بل وعلى القواعد والأسس التي بُني عليها النظام الدولي من احترام لحقوق الإنسان والحريات العامة والمحاسبة الدولية لمقترفي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بمعنى أن الموقف الدولي في العديد من القضايا العربية وبالأخص الإبادة الإسرائيلية الأخيرة للفلسطينيين، هو دون حد أخلاقي، وهذا قد ينذر ببداية حرب هوجاء ساخنة لا رأس لها ولا مقومات يكون الضحية فيها أولاً وأخيراً هو الوطن العربي. وجرثومة التفكك من أخطر الجراثيم التي يمكن أن تصيب بالشلل أية دولة وأي كيان وأي تجمع أو نظام إقليمي. فالتشرذم الذي أصاب الجسم الفلسطيني، مثلاً، منذ زمن كان ثمنه باهظاً ودفع فاتورته الشعب الفلسطيني في شكل مذبحة وإبادة وهدم وخراب، أصاب الأرواح والمنازل والبنايات والمؤسسات والمدارس في ظل من اللامبالاة الدولية... وتغير قواعد اللعب السياسي على المستوى الدولي لم يعد في صالح التفرقة والتشرذم، إطلاقاً. ولكن محنة العرب في كثير من الأحيان هي عدم الاتعاظ، واللاعقلانية، وغياب الحس الاستباقي، وغياب المصلحة العامة، والاشتغال بالتفاهات بدل الخوض في الأولويات... وقيادات «حماس» و«الجهاد» وبعض الفصائل لا بد أن تكون قد وصلتهم هذه الرسالة مرة أخرى، رسالة الوحدة ولا شيء غير الوحدة، كما كانت قد وصلتهم سابقاً في أزمات بنيوية خانقة أفضت إلى اجتماعات متعددة، منها واحد بجوار الكعبة الشريفة، فتحققت تلك الوحدة في حينها على استحياء، قبل أن تنهار في اليوم الموالي. إن الوحدة الفلسطينية ينبغي أن تكون خطاً أحمر لا يجوز لعاقل التغاضي عنه أو تجاوزه أو اللعب السياسي حوله، وهذه الوحدة سهلة التحقيق إذا رزقت الأطراف الحكمة والتعقل، وبغيابها يعطي الفلسطينيون «الجوائز» الواحدة تلو الأخرى للإسرائيليين... والشيء نفسه بالنسبة للعراق، فبغياب التعقل والحكمة تسربت جرثومة التفكك إلى الجسم العراقي، وأعطى الحكام العراقيون، أيضاً، لإيران ولـ«داعش» وللمنظمات الإرهابية الجوائز الواحدة تلو الأخرى. والحمد لله اليوم أن الشيعة والسنة والأكراد اتفق جلهم على التصالح في العراق، والحمد الله أن المالكي وافق على الخروج من رئاسة الحكومة، وتصالحت حكومة كردستان مع حكومة بغداد، بل ردت إليها حقلي نفط منهية القطيعة، وقبلت دول ورحبت بحيدر العبادي، بمعنى أنه لا مكان لـ«داعش» ولا مجال للعب بأوراق «داعش»... وهذه الحالة يرجى أن تكتمل. وكان بالإمكان تجنب كل هذه التراجيديا، والكوميديا الخبيثة، لو اتصف الفاعلون بالحكمة والتعقل، ولو فتح المجال السياسي العام لكل مكونات المجتمع السياسي في ميثاق تعاقدي يؤسس للمصلحة العامة بدل المصالح الشخصية الذاتية، ويكون فيه الولاء للوطن وليس للأفراد أو الطوائف أو المجموعات. ولكن ما أتوجس منه هو أن تخرج إلى الوجود مشاكل أخرى، لأن قرون الشياطين في التفاصيل. وفيروس «داعش» لا يقل خبثاً ودهاء في هذه اللعبة السياسية المحكومة دائماً بالوحدة المؤقتة اليوم، والتفكك والتشرذم غداً أو لاحقاً. والأخطر أن «داعش» أصبح يملك بترولاً وخبزاً وسلاحاً، وبدأ يتنامى خطره ويتوالد أتباعه بسرعة، وربما أصبح له «مريدون» في الوطن العربي... و«داعش» وُلد من رحم التفكك العربي، وأصبح جرثومة فتاكة، ولا يمكن علاجه والتداوي منه إلا بالوحدة الداخلية في كل بلد، وبالوحدة الإقليمية الأوسع ثم العربية بصفة عامة.