قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل إنّ الأَولوية لدى العرب والمسلمين، ليس فكّ الحصار عن غزة وإغاثتها إنسانياً وحسب، بل المُضيّ قُدُماً لإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية التي تُزيل الاحتلال، وتؤمّن العيش بكرامةٍ وحرية للشعب العربي الفلسطيني. وتابع قائلا إن الأمة الإسلامية، وليس النظام الدولي فقط، مسؤولةٌ عن هذا التردّي في أحوال الشعب الفلسطيني، بالتقصير في الدعم والمتابعة. ثم إن المسؤول بعد المجتمع الدولي والأمة، الفتن والانقسامات الشائعة في فلسطين ومن حولها. ومع أن الفيصل ما ذكر تفصيلاتٍ بشأن الانقسامات، فإنه كان قد فعل ذلك في مؤتمر القمة العربي بمدينة سرت الليبية في ربيع عام 2010 عندما تحدث عن «الخواء الاستراتيجي»، أي عن غياب العامل العربي الناظم للمنطقة، وصاحب المصلحة الأُولى في الاتّساق والتوازن والاستقرار. وقد حاولت شعوب الأمة العربية إحداث تغيير يملأُ هذا الخواء والفراغ منذ عام 2011. بيد أن ثلاثة أمور أعاقت تلك الموجة التغييرية، وحوّلتها أحياناً إلى عكس مقاصدها: عجز القيادات المدنية للحراك التغييري عن السير في إقامة أنظمة منفتحة خلَفاً للاستبداد، والتدخل الإيراني والتركي لإفشال الحراكات أو تغيير وجهتها، والسياسات الدولية، الأميركية والروسية، المعاكِسة أيضاً للحِراك باتجاهات مختلفة. ففي سوريا ولبنان والعراق، كانت إيران قد أحكمت قبضتها، واصطنعت من تلك البلدان مناطقَ لنفوذها. ولذلك سارعت إلى إرسال حرسها الثوري وميليشياتها إلى سوريا، وسارع المالكي الموالي لإيران إلى فضّ الاحتجاجات في الأنبار والفلوجة وديالي والموصل بالقوة، وازدادت القبضة على لبنان إحكاماً وشِدّة. وما تحركت الولايات المتحدة لعدة أسباب: لأنها ما ارادات العودة لسياسات بوش التدخلية، ولأنها ما أرادت إزعاج روسيا في مناطق نفوذها، ولأنها كانت مرتبطة باتفاق مع إيران بشأن العراق وسوريا ولبنان؛ ولأنها أخيراً كانت تجنّد سيطرة قوى الإسلام السياسي التي اعتقدت أنها تستطيع استيعاب المتطرفين من فلسطين إلى مصر واليمن وسوريا والعراق! ثم إنّ الحِراكات التغييرية ما استطاعت الصمود وسط استخدام القوة القاهرة والمدمِّرة من الأنظمة. وقد أمكن تلافي الكارثة الناجمة عن الاستقواء والعجز في بلدان مثل تونس ومصر لوجود الجيوش الوطنية؛ بينما ما أمكن ذلك في العراق وسوريا. وما يزال الوضع في اليمن ولبنان يراوحُ صعوداً وهبوطاً على وقْع الأزمات المتتالية. والخلاصة أن حركات التغيير في خمس أو ست أو سبع بلدان عربية، ما استطاعت ملءَ الفراغ، أو إصلاح الأوضاع، كما كان يُرجى ويؤَمَّل. لكن الأمر لا يخلو من فوائد مثلما حصل في تونس ومصر، ومن مُسارعة العاهل المغربي إلى تقوية الملكية الدستورية وإرضاء معظم فئات الشعب، والأطراف السياسية العاملة والفاعلة بما فيها الإسلاميون المعتدلون. ولذا فإن حالات الضيق ازدادت في البلدان التي ما حل الحراك أو القوى المدنية أو الجيش الوطني أزمتها. من تلك البلدان أو في طليعتها العراق وسوريا وليبيا. ففي سوريا (موطن التدخل الإيراني الأكثر هولا) ما تزال البلاد منقسمةً نصفين، وقد سقط ربع مليون قتيل، وهناك 9 ملايين مهجَّر بالداخل ودول الجوار والعالم الأَوسع. وفي ليبيا تتقاتل عشرات الميليشيات التي استولت كل منها على مدينة أو منطقة. والجيش الوطني ضعيف ومتباعد الكتائب، وما استطاع تمرد الجنرال حفتر إحداث فرق ظاهر حتى الآن. وفي العراق، وبعد فض الحراك المدني بالقوة، تمردت العشائر في مناطق العرب السنّة، ورأس حربتها لسوء الحظّ «داعش»، واستولت على مناطق سكنها، وأخذت الموصل التي فر منها جيش المالكي. وفي الأسبوعين الأخيرين توجهت «داعش» لتحدي المنطقة الكردية، واضطهاد الأقليات المسيحية والأزيدية. وهكذا يمكن الوصول إلى استنتاج متعدِّد الشُعَب؛ الشعبة الأولى أنه في البلدان التي لا حول ولا قوة فيها للجيش الوطني الملتزم بعدم قتل الناس وبعدم السماح بذلك؛ فإن حالةً من الفوضى المستشرية تسود سائر الأجواء. والشعبة الثانية أن الفوضى المسلحة في بلدان غياب الجيوش الوطنية عن مهامها، تسودها الشراذم المتطرفة باسم الإسلام وأبرزها «داعش» و«أنصار الشريعة».. إلخ. والشعبة الثالثة أنه باستثناء ليبيا؛ فإن البلدان الأكثر اضطراباً هي تلك التي يسودُ فيها الإيرانيون أو لهم نفوذ كبير في بعض مناطقها ومؤسساتها. ماذا كانت ردة فعل «دول الاستقرار العربي» في الخليج والأردن على الحاصل من اضطراب وتدخُّل وانعدامٍ للوزن؟ لقد اعتبرت تلك الدول أنها مرحلة جديدة من مراحل الفراغ الاستراتيجي، والصراع على العرب أمةً ودياراً وانتماءً. والمواجهة في هذه المرحلة ليست مع الاحتلال والتدخل من جانب إسرائيل وإيران فقط؛ بل ومع الإرهاب الذي يضع العرب والعروبة نُصب عينيه، رغم ادّعائه الصراع مع «الفرس والرافضة»، وما شابَهَ ذلك من شعارات لا تجلب شيئاً سوى الخراب وزيادة الشرخ الطائفي الذي أيقظته إيران بادعاء قتال التكفيريين وحفظ مزارات أهل البيت! وقد بدأت دول الخليج مساعيها مع الجامعة العربية، ثم مضت إلى المجتمع الدولي بعد أن ثبت عجز الجامعة. وخلال ذلك تقدمت لمساعدة البحرين ومصر واليمن ولبنان. وذلك دون أن تتخلى عن مكافحة العلتين الأصليتين اللتين ذكرهما خادم الحرمين الشريفين: الطغيان والإرهاب. إن هذا الحراك الدبلوماسي والسياسي الكبير الذي وقعت في طليعته المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، بدأ يؤْتي ثماره بعدة أشكال؛ أولها عودةُ مصر إلى دورها في النضال العربي من أجل الاستقرار والتقدم. فبعد أن زار الرئيس المصري الجزائر والسودان لبحث الملف الليبي، مضى إلى المملكة العربية السعودية، ثم إلى روسيا الاتحادية لاستكمال بحث باقي الملفات المتعلقة بالأمن العربي، بل وبالاستقلال والسيادة العربيين. وفي العراق حدث التغيير الذي يمكن أن يتطور لإقامة حكومة متوازنة. وقال وزير الخارجية السعودي إنّ المأمول من التغيير حفظ وحدة العراق وانتمائه العربي. وفي لبنان عاد إلى بيروت سعد الحريري، للإشراف على منحة جديدة قدّمها خادم الحرمين الشريفين للجيش اللبناني والقوى الأمنية في أعقاب حَدَث بلدة عرسال، وللنظر في إمكان تحقيق تسوية في ملف رئاسة الجمهورية. وبعد عودته بيومين انتخب المسلمون اللبنانيون مفتياً جديداً للجمهورية قال في خطاب نجاحه إنه ملتزم بإسلام الاعتدال، وضد التطرف في كل مكان، وضد اضطهاد المسيحيين وتهجيرهم في العراق، كما سيسعى بكل وسعه للم الصدع بين الشيعة والسنة. وفي غزة، تتطور النقاشات الجارية بمصر إلى عدم الاكتفاء بفك الحصار عن القطاع؛ بل أن تكون الهجمة الإسرائيلية درساً وسبباً للعودة إلى مفاوضات السلام، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967. لقد كلّف الفراغ العربي الشعوب العربية، وفي أقلّ من خمس سنوات، زهاء نصف مليون قتيل، وملايين المهجرين والنازحين، وخراب البلدان والعمران، واستعلاء التطرف والإرهاب. وقد بدأت استعادة الرشد العربي بالإجماع على مكافحة التطرف، ومكافحة التدخل الإسرائيلي والإيراني، وإقناع الأميركيين والروس بأنّ التطرف لا يمكن مكافحته إلا بالتعاون مع دائرة الاستقرار العربي (الخليج والأردن ومصر) لاستعادة الزمام، واستعادة الاحترام لفكرة الدولة، والخروج من الطغيان والإرهاب في الوقت نفسه. إن الحضور العربي لا يمكن تعويضه لا بإيران وإسرائيل، ولا بأميركا وروسيا والصين. العرب هم العرب، والبلاد بلادهم، والقرار قرارهم. وهم أصحاب المصلحة الأولى والأخيرة في الحرية والكرامة والاعتدال والدولة القوية والعادلة.