حين نطالع قول الشاعر الروسي الشهير بوشكين: «كثير من القيم الأخلاقية موجزة في القرآن في قوة وشاعرية» ونردفه بقول نظيره ومواطنه ليرمونتوف: «سماء الشرق قربتني بلا إرادة مني من تعاليم النبي محمد» صلى الله عليه وسلم، ندرك أن المساحة الدينية بين العرب والروس كانت محل تفكير وتدبر منذ أمد بعيد، وقد دلت عليه دلالة مباشرة الرسائل التي تبادلها الإمام محمد عبده مع الروائي الروسي الكبير «ليو تولستوي»، التي دفعت الأخير إلى أن يقول للأول في لحظة صدق مع النفس: «يوجد دين واحد، الإيمان الصادق. وأعتقد أنني لا أخطئ حين أعتقد أن الدين الذي أعتنقه هو نفسه الذي تعتنقونه». وقد صاحب تفهم هؤلاء الروس العظام للدين الإسلامي تأثير قوي للثقافة العربية في الأدب والفكر الروسيين، عبر أربعة مسارات، الأول هو حركة الاستشراق الروسي في القرن الثامن عشر على أيدي «باير» و«كير»، ثم في القرن التاسع عشر على أيدي «بولديريف» و«سينكوفسكي» والعالم المصري الشيخ محمد طنطاوي الذي سافر إلى روسيا لتدريس اللغة العربية فقوبل باحتفاء شديد. أما المسار الثاني والأقدم فتم من خلال التجارة التي تعود إلى زمن العرب الزاهر، حيث تشير مصادر تاريخية عدة إلى وجود علاقات تجارية بين العرب والروس أيام الخلافتين الأموية والعباسية. والمسار الثالث هو جهود المترجمين من العربية إلى الروسية التي تعود إلى القرن الحادي عشر، ثم حركة التأليف عن الحضارة العربية وقد بدأت في روسيا خلال القرن الخامس عشر الميلادي، لتنتهي بإنشاء أكاديمية في بطرسبرج عام 1724 كان لها فضل جم في إصدار دوريات علمية للتعريف بالشرق، وبعدها تم تدريس العربية في عهد الإمبراطورة كاترينا الثانية (1762 1796). والمسار الرابع والأقوى هو المناطق الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز التي كانت متاخمة لروسيا القيصرية ومنضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي المنهار، ثم المسلمون المتواجدون في روسيا الاتحادية نفسها منذ قرون طويلة. وهنا تقول الدكتورة مكارم الغمري المختصة في الأدب الروسي في مؤلفها المتميز «مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي» إن هذه المؤثرات «انسابت من خلال خطين متميزين، خط يستلهم التراث الروحي الإسلامي ممثلاً في القرآن الكريم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخط يستلهم مفردات الحضارة العربية. وانعكست هذه المؤثرات خصوصاً في إنتاج أدباء الحركة الرومانتيكية الروسية، وعلى رأسها بوشكين الذي قام باستلهام القيم القرآنية بحثاً عن المثال الأخلاقي الخاص والقومي، وللتعبير عن الأفكار البطولية والنضال المنكر للذات في فترة النهضة القومية الروسية. أما سيرة الرسول فصارت بالنسبة لصفوة المثقفين الروس، ومنهم الأدباء ورواد الحركة الوطنية نموذجاً للقدوة الحسنة الصابرة على تبليغ الرسالة والمكافحة في سبيلها. وقد لبّت عناصر الحضارة العربية احتياجات التطور الإبداعي للرومانتيكيين الروس في سعيهم نحو التجديد والخروج على القوالب الكلاسيكية، وتأكيدهم حرية الإبداع، فأخذوا عن الأدب العربي رموزه وأخيلته، وتعدوا إلى محاولة اقتباس أسلوب الشعر العربي وبلاغته». وقد كان هذا التأثير لافتاً، لا يخفى على سمع ولا بصر أي منصف، وهي مسألة علق عليها الأديب العربي الكبير توفيق الحكيم، وهو ممن تأثروا بالأدب الروسي الكلاسيكي، تعليقاً جلياً حين عزا عبقرية هذا الأدب الذي خلب ألباب الأوروبيين فأقبلوا عليه يترجمونه وينهلون منه ما وسعهم إلى مزجه بين الشرق والغرب، مما أعطاه طعماً خاصاً وقوة متفجرة، عادت إلينا نحن العرب والمسلمين في صيغة روايات خالدة لتولستوي وغوركي ودستوفسكي وتورجينيف وجوجول، وأشعار بديعة لبوشكين وليرمونتوف وبونين، كان لها تأثير قوي في الأدب العربي الحديث برمته، سواء في الشكل أو في المضمون، مع حرص الروس على ترجمتها إلينا بعد قيام الثورة البلشفية، لاسيما من خلال «دار التقدم» التي كانت تقدم مثل هذه الكتب وغيرها بأسعار زهيدة، في سياق اهتمام السوفييت بنشر الماركسية اللينينية. وقد اتكأ كل هذا على صورة إيجابية للروس في كتب العرب التاريخية، التي دبجها المسعودي وابن الوردي والمقدسي وياقوت الحموي وأحمد بن فضلان، يلخصها الأخير بقوله: «الروس حمر، جمل الله خلقهم، لهم نظافة في لباسهم، ويكرمون أضيافهم، ويُؤْوون الغريب، وينصرون المظلوم، ويحسنون إلى رقيقهم، ويتأنقون في ثيابهم لأنهم يتعاطون التجارة، ولهم رجولة وبسالة إذا نزلوا بساحة حرب، وإذا استنفروا خرجوا جميعاً ولم يتفرقوا، وكانوا يداً واحدة على عدوهم حتى يظفروا». وفي المقابل فإن صورة العربي في الثقافة الروسية ناصعة قياساً إلى ما هي عليه في غرب أوروبا والولايات المتحدة. فالروس يبدون إعجابهم بكثير من السمات التي تميز الشخصية العربية ومنها الكرم والشهامة والإباء والتضحية بالنفس في سبيل الدين والوطن والمبدأ وتوقير الكبير ومساعدة العجائز، كما تروق لهم بعض الفضائل الاجتماعية المتواجدة في الحياة العربية ومنها التماسك الأسرى، والحرص على الصداقة، وقدسية العلاقة الزوجية. ولا تجرح بعض الرواسب القديمة النابعة أساساً من «ألف ليلة وليلة» ولا بعض الخدوش التي أحدثتها سلوكيات عرب محدثين هاجروا إلى روسيا للدراسة أو العمل أو اللجوء السياسي هذه الصورة العامة للعربي في ذهن الروس، خاصة أن أغلبهم مؤمنون بالتنوع البشري الخلاق، وتتلبسهم روح صوفية، جعلت عالم النفس الاجتماعي أندريه سيجفريد يطلق عليهم في كتابه القيم «سيكولوجية بعض الشعوب» وصف «الشعب المتصوف»، وهي مسألة ظاهرة للعيان في أدب تولستوي وأفكاره. وفي صورته الأخيرة، انعكس احترام روسيا، التي تتمتع بعضوية مراقب بمنظمة المؤتمر الإسلامي، للعرب والمسلمين، عبر رد فعل الرئيس بوتين ووزير خارجيته وكذلك مجلس النواب الروسي على قضية «الرسوم الدنماركية المسيئة». فعلى العكس مما فعلت دوائر رسمية غربية عديدة تشدقت بحرية التعبير، لم يرق هذا الفعل الشائن للمسؤولين الروس، الذين أدانوا جرح مشاعر المسلمين والإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكدوا احترامهم لقدسية الأديان وحرماتها. وعلى رغم أن تواجد الثقافة الروسية في الحياة العربية الراهنة أقل بكثير مما كانت عليه الحال أيام الاتحاد السوفييتي، الذي قدم للعالم أيديولوجية شيوعية استهوت مثقفين عرباً كثراً ولا يزال هناك من يخلص لها، فإن الأفق لا يزال واعداً لتمتين العلاقات الثقافية بين الطرفين، خاصة أن المجال السياسي يسهل مثل هذا الاتجاه في ظل اتفاق المصالح العربية الروسية في كثير من الجوانب. كما يسهل تواجد نحو 16 مليون مسلم في روسيا الاتحادية، يتوزعون في 14 جمهورية ومنطقة إدارية، إمكانية إفهام الروس طبيعة الدين الإسلامي الحنيف، وتحسين صورة المسلمين لديهم، بعدما أتى المتطرفون والإرهابيون على جزء ناصع منها، وكذلك إمكانية مساعدة المسلمين هناك معرفياً وروحياً، نظراً لأنهم لا يعرفون تعاليم دينهم جيداً، بعد أن مورس عليهم حصار شديد وقمع منظم أيام الاتحاد السوفييتي السابق. وقد باتت الفرصة الآن سانحة لمد يد العون لهم بعد رفع هذا الحصار، وفك تلك القيود، والسماح لهم بممارسة شعائر دينهم بحرية كبيرة، لاسيما عقب إعادة بناء المساجد، التي كانت في الحقبة الماضية قد هدمت أو تحولت إلى متاجر ونوادٍ وحتى حظائر للماشية، وبعد انتشار ترجمات لمعاني القرآن الكريم في منافذ بيع الكتب بالعديد من المدن الروسية.