صرخة الاستغاثة الباكية المدوية التي أطلقتها النائبة العراقية الإيزيدية «فيان دخيل» في جلسة للبرلمان العراقي عقدت قبل بضعة أيام، مناشدةً أعضاء الهيئة التشريعية، تنحية خلافاتهم السياسية، والتدخل الفوري -باسم الإنسانية- لإنقاذ أهلها من الطائفة الإيزيدية، من حملة إبادة جماعية يشنها وحوش تنظيم «داعش الإرهابي.. لا شك أنها صرخة أوجعت قلوبنا وآلمت نفوسنا وأدمعت عيوننا، لكنها- في حقيقة الأمر- كشفت أيضاً مدى ضعفنا وعجزنا وقصورنا، بل و«هواننا» في هذا العالم. وإذ تخاذل البرلمان العراقي، بسبب خلافات قادة وزعماء العراق حول المحاصصة، عن نجدة المستضعفين من النساء والأطفال الإيزيديين المحاصرين في جبل «سنجار» بلا ماء ولا طعام، يفترسهم الموت ويخطف أطفالهم كل يوم، ونساؤهم تسبى على أيدي عصابات «داعش» وتُباع كالجواري، ولسان حالهم يقول: «ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا».. لكن أين الولي العربي؟! وأين النصير المسلم؟! وإذ وقف العالم العربي والإسلامي عاجزاً عن مد يد العون والإغاثة والحماية، فإنه جل وعلى رؤوف بعباده، رحيم بالمستضعفين، يسخر لهم من جنده من يغيثهم وينجدهم. نعم، لم تذهب صرخة النائبة الإيزيدية، الموجعة الباكية، سُدى، إذ استجاب لها- سريعاً- الرئيس الأميركي باراك أوباما، فأرسل مقاتلاته تدك أوكار المجرمين المعتدين، كما بعث طائراته تحمل المؤن والغوث للبائسين المحاصرين. إن رحمة الله تعالى دائماً قريبة من المؤمنين. وكانت عشرات الآلاف من العائلات الإيزيدية قد اضطرت للفرار من بلدة «سنجار الإيزيدية، بعد انسحاب قوات البشمركة الكردية، تاركةً الأهالي العزل يواجهون مصيرهم، وجهاً لوجه مع وحوش «داعش»، ولم يجدوا غير جبل سنجار يحتمون به، وبخاصة بعد أن قتل المئات من رجالهم المقاتلين الذين تصدوا بشجاعة لعصابات «داعش» وتمكنوا من الصمود لأكثر من أربع ساعات. والمؤلم الموجع، بل المخزي في هذه المأساة الإنسانية، وطبقاً لوكالات الأنباء، أن عشائر عربية سنيّة، تقطن البلدة، ساندت عصابات «داعش» الإرهابية في اجتياح البلدة وانخرط عدد كبير من أبنائها في صفوف التنظيم الإرهابي! الطائفة الإيزيدية، استوطنت هذه المنطقة- شمال العراق- منذ نحو خمسة آلاف سنة، والديانة الإيزيدية، مزيج من ديانات عدة، مثل: اليهودية والمسيحية والإسلام والمانوية والصابئة، وهي أقدم أديان العراق، ويبلغ عدد أتباعها نحو 350 ألف شخص، لهم معبدهم (لالش) وكتبهم المقدسة («رش» و«الجلوة») وطقوسهم الخاصة، وعندهم بئر يشربون منها ويتبركون بها. ورغم ما يشيعه خصومهم عنهم من أنهم «عبدة الشيطان» إلا أنهم في الحقيقة، يؤمنون بالإله الواحد «خدا» أو «إيزدا» (أي الله) والديانة الإيزيدية، ديانة مغلقة، غير تبشيرية، وحتى من يتحول عنها من أتباعها لا يستطيع العودة إليها، وتتخذ الطائفة من النجمة السداسية رمزاً وشعاراً. والآن، ومهما تكن نظرتنا أو تصوراتنا عن الطائفة الإيزيدية، ومهما كانت الاختلافات الدينية بينها وبين الطوائف الأخرى المستوطنة في العراق منذ العصور السحيقة أو بينها وبين المسلمين على وجه الخصوص، فإن واجب «التضامن الإنساني» يدفعنا للوقوف بجانب هؤلاء المستضعفين. فاليوم هناك حوالي 350 ألف إيزيدي مهددون بالإبادة الجماعية أو التهجير القسري وترك مدنهم وقراهم بعد سيطرة عصابات «داعش» عليها. تنظيم «داعش» الإرهابي يواصل اقتلاع الطوائف الدينية والأقليات التاريخية بهدف تفريغ المدن العراقية من المسيحيين والإيزيديين وكافة الطوائف الدينية التاريخية. وبالأمس القريب، فرّغت داعش الموصل من المسيحيين، لتصبح هذه المدينة ولأول مرة في تاريخها، خالية من سكانها المسيحيين الذين استوطنوها منذ 1500 سنة، حيث طالبتهم «داعش» تحت تهديد السيف إما بالإسلام أو دفع الجزية أو القتل أو الرحيل خلال 24 ساعة بملابسهم التي عليهم. فقد جرّدتهم من كل شيء، وسلبتهم جميع مقتنياتهم حتى وثائقهم الرسمية، واستولت على منازلهم وممتلكاتهم الخاصة وعلى كنائسهم (30 كنيسة في الموصل)، واضطرتهم للرحيل سيراً على الأقدام، مئات الكيلو مترات إلى إقليم كردستان، وفيهم العجزة وكبار السن والأطفال، فوصلوا هناك هلكى من الإرهاق والجوع والعطش. تلك الإبادة الجماعية وأعمال التهجير القسري الجماعي، اقترفتها «داعش» تحت راية «لا إله إلا الله» وبشكل ممنهج. وقد أدان مجلس الأمن الدولي «الاضطهاد الممنهج بحق الأقليات» الذي تمارسه «داعش»، واعتبره «جريمة ضد الإنسانية» وأدانه بأشد عبارات الإدانة.. لكن علينا أن ندرك أن كل ذلك من مسؤولياتنا أولا، قبل مسؤولية المجتمع الدولي، وأنه من العار أن نسكت ونتفرج على جرائم «داعش».