حين تصمت المدافع في غزة، قد لا تنتهي الحرب بعد، بل ربما تتوقف لبرهة، وستعود خلال عامٍ أو عامين، لأن أسبابها ما زالت قائمة. فالحصار الذي فرضته إسرائيل على هذا القطاع الصغير من الأرض، والمكتظ بالسكان ما زال يخنق سكان هذا الحيّز الذي لا تتعدى مساحته 360 كيلومتراً مربعاً. وبينما كان ضحايا الحرب على غزة عام 2008-2009، حوالي 1382 شهيداً، حسب إحصائيات صحيفة «نيويورك تايمز»، بلغ عدد ضحايا الحرب الحالية على القطاع زهاء 1865 شهيداً و9563 جريحاً، حسب إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية. كما أعلنت الوزارة نفسها أيضاً أن 35% من مصابي غزة قد أصبحوا معاقين بصرياً، أو سمعياً. وتضاف إلى هذه الخسائر البشرية المؤلمة الأضرار الاقتصادية الهائلة التي لحقت بالاقتصاد الفلسطيني في غزة، والتي قد تتجاوز 6 مليارات دولار. كما أنّ تهديم مئات المباني السكنية في القطاع يعني أنّ تكلفة إعادة بناء هذه المباني والمستشفيات والمدارس والجوامع ستكون باهظة للغاية. وفي المقابل، فإن طول أمد الحرب قد أثّر على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي قدّرت تكلفة خسائره المباشرة وغير المباشرة بنحو 3,5 مليار دولار. كما أنّ تلطخ سمعة إسرائيل في الخارج، والمقاطعة التي أبدتها بعض المؤسسات الاقتصادية الأوروبية للمنتجات الإسرائيلية من صادرات المستوطنات، قد تكلف اقتصاد إسرائيل ما يوازي 1,5% من ناتجه المحلي خلال العام الجاري، مما اضطرّ البنك المركزي الإسرائيلي لتخفيض نسبة الفائدة على القروض بربع النقطة لإنعاش القطاعات الاقتصادية المتأثرة من حرب غزة. والسؤال المهم هنا، هل نجحت إسرائيل في الحدّ من قوة «حماس»؟ وهل نجحت «حماس» في رفع الحصار البري والبحري المفروض على القطاع؟ إن أسئلة من هذا القبيل ما زالت معلّقة تنتظر انتهاء مفاوضات القاهرة التي تُعقد بين الطرفين بمباركة أميركية ومصرية. ولاشكّ أن «حماس» ومواطني غزة قد خسروا هذه الحرب عسكرياً، فلا يوجد أي توازن للقوى العسكرية بين الجانبين، غير أنّ الحركة ربما تكون قد كسبت الحرب سياسياً، خاصةً إذا ما نجحت في رفع الحصار الخانق المفروض على القطاع. وبغضّ النظر عن الميزان الآني للحرب والخسارة، فإن التحدي الكبير الذي أثارته هذه الحرب الغاشمة هو ضرورة التوصّل إلى حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية. فقد شعرت الدول الكبرى بأنّ الآلة العسكرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على ضمان أمن إسرائيل، الذي تحرص عليه تلك الدول أيّما حرص، وأنّ أمن الفلسطينيين كما أمن الإسرائيليين مرتبط بإيجاد حلّ جذري يتمثّل في بناء دولة فلسطينية قادرة على الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مرتبطين ببعضهما البعض، ومتخذة من مدينة القدس عاصمةً لهذه الدولة. ومن دون قيام هذه الدولة، فإنّ السلام سيظلّ بعيداً عن الوجود والتحقيق. ومن ناحيةٍ ثانية، فإنّ تشريد ربع سكان غزة من منازلهم، وهدم مئات المباني، يحتاج إلى جهدٍ عربي وعالمي ضخم، وهناك العديد من المنظمات الخيرية في الغرب التي تمد يدها لتضميد جراح أهل غزة. ومعظم التبرعات تصل إلى «اليونيسيف» و«مسلم إيد»، وصندوق الطفل الفلسطيني، و«الأونروا»، ومنظمات خيرية أخرى في بريطانيا وماليزيا وأميركا وأستراليا. وفي البلاد العربية، ما زالت المعونات تُقدّم من قِبل الحكومات، من دون مشاركة فعّالة من الأفراد، لعدم وجود منظمات مجتمع مدني قادرة على جمع الأموال وتسيير حملات الدعم والمساندة للشعب المكلوم في غزة. وفي رأيي، فإن الدعم الحكومي العربي مطلوب، ولكنه غير كافٍ، لأن دعم الأفراد يعني حماسهم للقضية التي تربّوا منذ صغرهم على نصرتها، وهي تعني التآزر الروحي والمعنوي، كما التآزر المادي أيضاً. وقد هزّتني مكالمة تليفونية قام بها شاب يهودي، حين اتصل بحملة إغاثة تقودها إحدى المنظمات الخيرية الإسلامية «بني أبّيل» في بريطانيا، وأعلن أنه قد تبرع بمرتبه الشهري الأول لوظيفته بمبلغ (896 جنيها إسترلينيا)، وأكثر من ذلك أن حرب إسرائيل الظالمة على غزة قد حملته إلى الدخول في دين الإسلام، وهدايته إلى طريق الله القويم. وكل ذلك يعني أنّ الحملات الإغاثية الشعبية يمكن أن يكون لها أثر كبير في نفوس الناس، يتعدى بكثير أبعادها المادية، على رغم أهميتها هي أيضاً. والطريق إلى بناء غزة يعني أيضاً بناء دولة فلسطينية مستقبلية عبر الجهود القانونية بملاحقة إسرائيل قضائياً أمام المحاكم الجنائية الدولية، باعتبارها دولة فاشية وترتكب أكبر الجرائم بحق الإنسانية. كما يعني أيضاً حشد التأييد الشعبي العالمي الضاغط على الحكومات الغربية التي تساند إسرائيل، بل ومقاطعة الشركات التي تدعم المجهود العسكري الإسرائيلي وتساعده على تثبيت أركان نظام «الأبارتايد» في فلسطين. فالضغط يتزايد على حكومة ديفيد كاميرون في بريطانيا مثلاً لتجميد مبيعاتها العسكرية لإسرائيل، كما فعلت إسبانيا. وقد حاصر المتظاهرون المتعاطفون مع أهل غزة مصنعاً في بريطانيا يصنع المكينات الدافعة لطائرات الاستطلاع «الدرون» الإسرائيلية. وكل هذه الضغوط، وإن لم تُؤت أُكُلها في وقتٍ قصير، إلا أنها ستكون أدوات ضغط على القادة السياسيين لتغيير سياساتهم تجاه إسرائيل، والضغط عليها هي نفسها من أجل قبول حلّ الدولتين. وفي اتجاهٍ موازٍ، فإنّ توحّد الفلسطينيين بكل فصائلهم خلال هذه المأساة، من شأنه أن يرفع صوتهم في المحافل الدولية، وفي كواليس السياسة. وسيرى نتنياهو أنّ حربه الظالمة ستحرق مستقبله السياسي، كما ستثير العالم بأكمله تجاه هذه الجرائم ضد الفلسطينيين، وتدفعه إلى التعاطف مع قيام دولة فلسطينية، مثلما تعاطف مع ضحايا المذبحة النازية بحق اليهود، ودعم الغربيون إنشاء دولة لهم في عام 1948، على الأرض الفلسطينية المغتصبة. فالسياسات العدوانية الإسرائيلية الحالية لن تسكت عنها شعوب العالم، وهذا بالضبط ما اضطرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التهدئة بعد شهر كامل من القصف والقتل. وكلما انصهرت الفصائل الفلسطينية في كيانٍ سياسيٍ واحد، ونسقت مواقفها مع الدول العربية، وابتعدت عن الدخول في الصراعات العربية الداخلية، كلما أصبحت قادرة على إيصال قضيتها ومتطلباتها السياسية بصوت قوي وبدافعية كبيرة. ولذلك، فإن تضحيات البشر في غزة لن تذهب سُدى، وسيكون هؤلاء الضحايا أول بناة للدولة الفلسطينية المستقبلية.