عندما يتعرض بلد ما لاضطرابات تاريخية ويغدو مستأثراً بعناوين الأخبار، يصبح من الصعب تصور استمرار سكانه في العيش مثلما كانوا يفعلون في السابق. والحال أنه حتى في زمن الحروب، يولد أطفال ويموت أشخاص (لأسباب طبيعية)، بينما يقع من هم بين الولادة والموت في الحب أو ينتهي حبهم، ويحققون النجاحات أو يمنون بالإخفاقات.. لأن الحياة تستمر. والواقع أن نقطة القوة في كتاب «مذكرات أوكرانيا»، والذي يغطي الفترة الممتدة من نوفمبر إلى أبريل الماضيين، تكمن في أنه زاوج بين الاستثنائي والعادي؛ حيث يشير المؤلف في مذكراته إلى آرائه ومواقفه من أهم الأحداث التي شهدتها بلاده، لكنه يرصعها بقصص من حياته اليومية. وهكذا، نعيش -كقراء- أبرز مراحل ومحطات ثورة ساحة «ميدن»، وخلع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم. غير أن المؤلف يطلعنا أيضاً على تفاصيل الحفلة التي أقامها احتفالا بعيد ميلاد ابنه الحادي عشر، ونجاح محصول البطاطس في منزله الريفي، وذهابه للمستشفى رفقة والدته لإجراء اختبارات رسم القلب... وبهذه الطريقة يجعل تاريخ أوكرانيا الحديث أكثر إنسانية وواقعية. وباعتباره أحد أشهر الكتاب الأوكرانيين، حقق كركوف شهرة واسعة في الغرب من خلال روايتيه «الموت والبطريق» و«حب الرئيس الأخير». ومثلما يشرح في مقدمة كتابه، فقد يحرص على تدوين مذكراته الشخصية منذ 30 عاماً ولم يشعر أبداً بالحاجة لنشرها؛ ولكن لأنه عاش مع زوجته وأطفاله الثلاثة في شقة لا تبعد سوى بـ270 متراً عن ساحة الاستقلال وسط كييف، فقد أضحى شاهداً على عصره. وفي هذا الصدد، كتب يقول: «من على شرفتنا، كنا نرى الدخان يتصاعد من الحواجز والمتاريس المحترقة، ونسمع دوي القنابل اليدوية والطلقات النارية.. وقد داومت على تسجيل ذلك بشكل يومي حتى يتسنى لي أن أرويها بتفصيل». ومن التيمات اللافتة في مذكراته الصعوبة التي يجدها في فهم ما يحدث في بلاده. فإذا كان الصحفيون والمؤرخون هم من يهتمون بكتابة التاريخ، فإن مذكرات كركوف تُبرز مدى صعوبة تفسير الأحداث التي تتكشف تباعاً. ولأنه كاتب وأديب، فإنه يشعر بالاستياء أكثر من غيره لكونه يجد نفسه عاجزاً عن التعبير عما يجول بداخله من أفكار وخواطر؛ ويشعر أنه «فقد الكلمات». أحد أسباب ذلك هو الإشاعات الكاذبة والمعلومات المغلوطة، والتي تلعب دوراً كبيراً في التشويش على الناس والحؤول دون تكوينهم صورةً دقيقة حول حقيقة ما يجري. فمثلا، أفلحت حركة الاختيار الأوكراني المعارضة لأوروبا في إقناع كثير من الأوكرانيين بأن أوروبا تشترط التحول إلى المثلية على أوكرانيا من أجل التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. أما المثال الآخر، فهو الزوبعة التي أثارها في فبراير الماضي أحد النواب من حزب يانوكوفيتش من خلال زعمه بأنه تم إنزال مظليين أميركيين في غرب أوكرانيا، مطالباً روسيا بإرسال دبابات لمواجهتهم. وإذا كانت الثورات قد تبدو أحداثاً رومانسية تختزن بين ثناياها الكثير من الأحلام والآمال والتوقعات، فإنها، وفقاً لكركوف، كثيراً ما تكون أحداثاً دموية تتميز بالفوضى ولا تؤدي إلا إلى جعل الناس أكثر تشدداً، مما يصعب التوصل لتوافقات سياسية. وفي هذا الصدد، يتحدث كركوف عن الثورة التي عاش أطوارها، موضحاً أنه سمع أحد الأشخاص يقول إن بائعي الزهور وصانعي الشموع هم المستفيدون الوحيدون من الثورة، في إشارة إلى الشوارع التي صارت تغص بباقات وأكاليل الزهور التي يضعها الناس تكريماً لأرواح ضحايا الثورة، والإقبال الكبير على إشعال الشموع في الكنائس. ومن التيمات الواردة في الكتاب تحسر كركوف على تردي العلاقات بين الشعبين الأوكراني والروسي. فوفق تقديرات مختلفة، هناك ما بين 8 ملايين و14 مليون شخص من القومية الروسية أوكرانيون. وباعتباره من هذه القومية، ومولود في لينينجراد عام 1961 وعاش في كييف منذ نعومة أظفاره، فإن كركوف يشعر بهذا العداء جيداً ويتأسف عليه. ويذكر كيف أن أول فرد من عائلته وطأت قدماه التراب الأوكراني كان جده، الذي وصل في 1943 مع «الجيش الأحمر» وقُتل في معركة تحرير خركوف. وعن جده يقول: «لقد مات وهو يقاتل الفاشيين، واليوم أسمع كلمة فاشي توجّه إليّ لأنني نددتُ -ومازلت- بتفشي الفساد في عهد يانوكوفيتش». محمد وقيف الكتاب: مذكرات أوكرانيا المؤلف: أندري كركوف الناشر: هارفل سيكر تاريخ النشر: 2014