لقد كان مما يثير القلق والانزعاج حقاً أن قلة قليلة فحسب من المعلقين الأوروبيين والأميركيين المهتمين بالأزمة الأوكرانية هم مَن عبّروا عن خوفهم من أن تكون الولايات المتحدة قد أشعلت هذه الأزمة من دون أن تتوقع بأنها ستتحول إلى حرب. ولقد كان يُفترض بالغالبية العظمى منهم أن تعي هذه الحقيقة. بل لعل الأسوأ من هذا أن محاولة واشنطن تشبيه فلاديمير بوتين بـ«الشيطان» وإخفائها الموفق للدور الأميركي السري في كييف، كانت ناجحة وانطلت على الصحافة والرأي العام الأميركي إلى الحد الذي دفع الأميركيين وخبراء حلف «الناتو» للاعتقاد بأن ما حدث ليس إلا نتيجة لاستراتيجية روسيا التوسعية العدوانية في أوكرانيا بدلاً من الاعتقاد بأن ما حدث يندرج ضمن محاولة غير احترافية من الأميركيين لضم أوكرانيا إلى «الناتو» والاتحاد الأوروبي وتشويه سمعة بوتين السياسية. وهي السياسة التي أثبتت الأحداث أيضاً أنها خاطئة بشكل كبير. وربما يكون من المؤكد أن هذا الذي حدث يمثل الحلقة الأخيرة في مسلسل النكوث الأميركي والأوروبي بالوعود التي قطعها الرئيس جورج بوش الأب للرئيس السوفييتي الإصلاحي ميخائيل جورباتشوف في الفترة التي تم فيها توحيد شطري ألمانيا، بأنه إذا ما قبل الاتحاد السوفييتي بانضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف «الناتو»، فإن الحلف يتعهد بعدم نشر أي جندي في الشطر الشرقي من ألمانيا. وتم الاتفاق على الصفقة، وكان إبرامها في تلك الأوقات يستحق تهنئة لجميع الأطراف التي شاركت فيها، لأنها سمحت بإزالة العوائق أمام إعادة توحيد ألمانيا، وافتتحت عهداً جديداً من السلام في وسط أوروبا. وما حدث بعد ذلك هو الخرق المتدرج والمتواصل لبنود تلك الاتفاقية عندما تم الإعلان عن قبول الدول الأعضاء في «حلف وارسو» بشرق أوروبا (الموالي للاتحاد السوفييتي السابق)، كأعضاء بالتبعية في حلف «الناتو» وأطلق على تلك الدول اسم «الشركاء من أجل السلام». وجاءت اتفاقية انضمام تلك الدول إلى حلف «الناتو» في إطار معاهدة «ماستريخت» لتحقيق الوحدة الأوروبية لعام 1991. وفي عام 1987، قضت خطة «أوروبا 2000» لتوسيع الاتحاد الأوروبي بضم كل من أوكرانيا ومولدافيا وبيلاروسيا إلى قائمة الدول المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. وكذلك في عام 1990، أصبحت كل من بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا -التي انقسمت فيما بعد إلى دولتين- أعضاء في «الناتو». وانضمت رومانيا وبلغاريا إلى الحلف في عام 2004. وكان حلف «الناتو»، ولا يزال، يشكل تحالفاً فعالاً من النواحي العسكرية على المستوى العالمي، ويقع تحت السيطرة الأميركية الكاملة. وبقيت عيون واشنطن والاتحاد الأوروبي شاخصة باتجاه دول القوقاز وأوكرانيا. وتم توجيه دعوة رسمية إلى جورجيا للاستعداد للانضمام إلى «الناتو»، وهو العمل الذي أوحى للروس بأن «الناتو» والولايات المتحدة يعملان دون هوادة على التوسع العسكري في تلك المناطق الحساسة. ويؤيد هذه الفرضية الهجوم الذي شنه الحلف على منطقة أوسيتيا الجنوبية. وفي هذه اللحظة بالذات اتضح أن روسيا فقدت قدرتها على الصبر. وشن الجيش الروسي هجوماً خاطفاً على جورجيا واحتل أوسيتيا وأبخازيا المجاورة. وتكمن حساسية جورجيا وبقية دول القوقاز وأوكرانيا بالذات في أنها كانت عبر التاريخ تشكل تهديداً على روسيا القيصرية وتلامس مجالها الحيوي. أما الآن، يعتبر العسكري لحلف «الناتو» في تلك الدول، من وجهة نظر الروس، تهديداً مباشراً لروسيا الجديدة أو «روسيا بوتين». وهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن بالفعل. ولا يمكننا اعتبار رد الفعل الروسي على أنه يشكل ببساطة سلوكاً عدوانياً دكتاتورياً من طرف بوتين، بل إنه يمثل، من وجهة نظري، إرادة الغالبية العظمى من الشعب الروسي الذي بدأ الآن فقط يستعيد الشعور بالثقة والطموح الوطني. وربما كان الانقلاب على السلطة الذي نفذه الأوكرانيون في شهر فبراير الماضي، من تدبير واشنطن. إلا أن الأمور هناك سرعان ما خرجت عن السيطرة، ولم يعد بالإمكان توجيه قوى المعارضة نحو هدف محدد. وقد قال أحد كبار السياسيين الأوكرانيين في وصفه للأحوال هناك: «إن أوكرانيا غارقة الآن في فوضى عارمة». وهناك العديد من الأسئلة المهمة التي يجدر طرحها الآن، منها: هل المقصود من كل ما يحدث مجرّد العمل على إشعال حرب أهلية بين شرق وغرب أوكرانيا؟ ولماذا يدخل هذا الصراع ضمن الاهتمامات الأميركية؟ لقد كان من نتيجة التدخل الروسي في هذه الحرب العبثية التي تدور في أوكرانيا أن تمكنت روسيا من ضم شبه جزيرة القرم، كا وقع اتهام حلفائها بالمسؤولية عن الجريمة الغبية بإطلاق الصواريخ على طائرة ركاب مدنية ملأى بالأبرياء. وقد عمد «ديمتري ترينين» مدير مركز كارنيجي للبحوث في موسكو إلى تلخيص هذه الأمور المعقدة التي تجري على حدود روسيا بعبارة واحدة عندما قال: «إن الشروط الأساسية للاستقرار التي يضعها فلاديمير بوتين نصب عينيه هي: طرد حلف الناتو من أوكرانيا، ومنع الجنود الأميركيين من الاقتراب من حدود روسيا، وحماية الهوية الثقافية الروسية لشعب جنوب وشرق أوكرانيا، والاحتفاظ بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا». وفيما يتعلق بالمستقبل، يعتقد بوتين أن النفوذ العسكري والسياسي العالمي للولايات المتحدة في طريقه إلى التراجع والانحسار. وهو لا يأبه للصعود اللافت الذي تحققه الصين، والذي يثير انتباه العالم الآخر، بل ينظر إلى ألمانيا بالذات باعتبارها الدولة الرائدة، التي ستقود أوروبا القوية في المستقبل القريب. ولكن.. ماذا عن مستقبل الأزمة الأوكرانية بعد كل ما حدث؟ لا يوجد إلا حل وحيد لهذه الأزمة يكمن في فرض هدنة على الحدود الأوكرانية، والإعلان المتزامن عن اعتراف روسي- أميركي- أوروبي باستقلال وسيادة أوكرانيا. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»