على خلاف معظم الفلسطينيين، لا أعتقد أن إسرائيل تحاول أن تقتل أكبر عدد من المدنيين الفلسطينيين، خاصة الأطفال، لكني في الوقت ذاته لا أقبل المزاعم الإسرائيلية بأن نشطاء «حماس» يستخدمون المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية. بيد أن الإحصاءات لا يمكن إنكارها. فقد قتل أكثر من 1800 مدني فلسطيني، بينهم مئات الأطفال. فما الذي حدث؟ لفك لغز هذا التناقض، يتعين على المرء أن يفهم أمرين: الطبيعة غير المتكافئة للصراع والفشل في التطبيق الصارم للقانون الدولي الإنساني باعتباره أداة لمراقبة التجاوزات العسكرية. وبالمقارنة مع الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، تتمتع إسرائيل بنفوذ كبير، عسكري ومالي وسياسي، وتسيطر على كل العوامل المهمة في الصراع، مما يؤدي إلى نهج مبالغ فيه لحماية مصالحها والحفاظ على مواقعها من دون أن تتكبد أي كلفة تذكر. فقد بلغ متوسط دخل الفرد الإسرائيلي عام 2012 نحو 32 ألف دولار سنوياً، بينما لا يتجاوز الدخل السنوي للمواطن الفلسطيني 2900 دولار. والتفوّق الإسرائيلي في مجالات القوة العسكرية استثنائي؛ إذ تسيطر على الأرض والجو وعلى كل المداخل والمخارج الحدودية والمنافذ البحرية. وبسبب عدم التوازن، هذا يبالغ الإسرائيليون في الدفاع عن مصالحهم، ولا يبالون في المقابل بمعاناة الجانب الآخر. وتكون النتيجة عدم تسامح مع أي شيء يعكر صفو حياة الإسرائيليين، مع عدم الاهتمام بتأثير ممارساتهم على الفلسطينيين. ورصدت منظمة العفو الدولية عدم المبالاة هذه تجاه الفلسطينيين في الآونة الأخيرة بانتقادها إسرائيل بشدة لأعمالها ضد الفلسطينيين حتى لو كانت مثل هذه الأعمال مسبوقة بتحذير. وقالت المنظمة الدولية في بيان لها: «إن إصدار تحذير لا يعفي قوة مهاجمة من التزاماتها في حماية المدنيين، بما في ذلك أخذ كل الاحتياطات اللازمة لتقليص الضحايا من المدنيين، وتقليص الضرر في المباني المدنية لأدنى حد». وهذا النهج أحادي الجانب ليس مقتصراً على الجيش الإسرائيلي. لكن هنا يتدخل القانون الدولي ليحدد بداية أعمال القتال وسلوك المحتل تجاه السكان الخاضعين للاحتلال (والذين من حقهم بالمناسبة أن يقاوموا المحتل)، وإدارة عمليات القتال نفسها. وتحظر اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين في ظل الاحتلال العسكري العقوبات الجماعية، وتخريب الممتلكات، وفرض عقوبات تتعلق بحاجات السكان، ومنها المياه والكهرباء والطعام والإمدادات الطبية. وتزعم إسرائيل أن قطاع غزة أصبح بلداً مستقلاً منذ سحبها مستوطنيها وجيشها من القطاع، وبالتالي يجب إسكات الصواريخ التي تخرج من أراضيه. لكن حتى إذا اعتبرنا الحرب تنازع مصالح دولية، فهناك اشتراطات واضحة للحرب تتضمن التناسب، وحظر استهداف المباني المدنية، والعقوبات الجماعية والحصار. وفي السنوات القليلة الماضية انتهكت إسرائيل مراراً وتكراراً القانون الدولي من دون عقوبة، ليس فقط بإقامة مستوطنات غير قانونية، ولكن أيضاً بفرضها حصاراً برياً وبحرياً وجوياً لمدة سبع سنوات على 1.8 مليون فلسطيني، يعيشون في القطاع. ومثل هذا الحصار يعد عملا حربياً ضد القانون الإنساني. ووصفت 22 منظمة دولية حصار غزة بأنه «وحشي وغير مشروع». ومع انطلاق العدوان أشارت منظمة العفو الدولية إلى أن الحصار قيد إمكانات المدنيين في الهروب من العنف. ومن السخرية أن الأمر تطلب أن ينقل ممثل كوميدي أميركي هو جوش ستيورات إلى بلاده عبثية الحملة العسكرية الإسرائيلية من دون منح الفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة الضيق أي فرصة للفرار من القصف. فإذا تجاهلت القانون الدولي سيكون لديك بالضرورة عدد مرتفع من الضحايا المدنيين، حتى لو لم تكن هذه نواياك. وربما يكون أهم سبب لمعدل الضحايا المرتفع وسط المدنيين الفلسطينيين هو حقيقة أن إسرائيل لا تشعر بالخوف من مساءلتها عن أفعالها وافتقارها لضبط النفس عندما يتعلق الأمر بعواقب أعمالها العسكرية تجاه السكان المدنيين. فالمحاولات الماضية لمحاسبة إسرائيل واجهت إما الفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي أو ضغوطاً شديدة من قبيل الضغوط التي تراكمت على القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد جولدشتاين الذي كان يرأس وفداً من الأمم المتحدة لحقوق الإنسان توصل إلى أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في حملتها العسكرية ضد غزة عام 2009. ولعلاج عدم التوازن هذا يتعين العثور على وسيلة تمنح القانون الدولي أنياباً. وأحد الأفكار التي تمت مناقشتها بجدية من الزعماء الفلسطينيين هي الانضمام إلى اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية التي تسمح لفلسطين التي اُعترف بها حديثا كدولة مراقبة غير عضو، بتعقب مجرمي الحرب الإسرائيليين. والاشتراطات في القانون الدولي قد تقطع طريقاً طويلاً في مراقبة القادة الإسرائيليين المتعطشين للدماء، والذين يتصرفون متمتعين بحصانة عندما يتعلق الأمر بالسكان المدنيين الفلسطينيين. وربما لم يعتزم الجيش الإسرائيلي زيادة عدد الضحايا الفلسطينيين المدنيين لكنه بذل القليل من الجهد لتقليص نهم الساسة والجنرالات لشن عمليات قصف هائلة للمدنيين المحاصرين. ولن يحل السلام الذي يبتغيه الإسرائيليون والفلسطينيون إلا بحل القضايا الأساسية في الصراع القائم منذ عقود، وهي إنهاء الاحتلال وتفكيك مستوطناته ورفع الحصار غير القانوني. ـ ـ ـ ـ جوناثان كُتاب ـ ـ ـ ـ محام دولي وعضو مؤسس في منظمة «الحق» لحقوق الإنسان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ ــ ـ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. انترناشيونال»