أثرت أزمات دولية كثيرة على إدارة أوباما خلال الصيف الجاري، لاسيما في غزة وأوكرانيا والعراق وسوريا وليبيا وأفغانستان، بدرجة جعلتها تتغافل بسهولة عن أزمة أصغر وإنْ كانت أشد وطأة على السياسات والهيبة الأميركية. وتلك الأزمة وقعت الأسبوع الماضي في جورجيا، الجمهورية السوفييتية السابقة، والتي كانت حليفة وثيقة للولايات المتحدة. وبعد سيطرته على الحكومة الجورجية إثر فوزه في انتخابات عام 2012، تلقى «بيدزينا إيفانيشفيلي»، وهو أحد أباطرة النفط غير الليبراليين، تحذيرات متكررة من إدارة أوباما كي لا يحرك دعوى جنائية ضد الرئيس السابق «ميخائيل ساكاشفيلي»، الذي قاد الثورة المؤيدة للديمقراطية في جورجيا قبل عقد مضى، وسلم السلطة بشكل سلمي بعد هزيمته في الانتخابات. وعلى رغم ذلك، قدمت الحكومة يوم الاثنين الماضي اتهامات تبدو سياسية بوضوح ضد «ساكاشفيلي»، إضافة إلى أربعة قادة آخرين في حزبه. وربما يبدو تجاوز الخط الأحمر الأميركي من قبل دولة صغيرة أمر غير مهم نسبياً، فعلى أية حال «ساكاشفيلي» لا يخضع للاعتقال ويعمل في أوكرانيا مستشاراً لحكومتها الجديدة الموالية للغرب. ولكن هذا التحرك الجورجي يمثل جزءاً من اتجاه أكبر. ذلك أن دولاً حليفة للولايات المتحدة، وأنظمة- مثل جورجيا- تعتمد بشكل كبير على مساعدات واشنطن العسكرية والاقتصادية، بدأت واحدة تلو الأخرى تتحدى إدارة أوباما، وفي حالات قليلة، تتعمد إذلال مبعوثيها. فعلى سبيل المثال، حكمت مصر على ثلاثة صحفيين بالسجن لفترات طويلة بعد يوم من إعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري أنه ناقش قضيتهم مع الزعيم المصري القوي الجنرال عبدالفتاح السيسي. وحتى جزيرة «Aropa» الصغيرة، التي تدير هولندا سياستها الخارجية، تجاوزت واشنطن بإطلاق سراح جنرال فينزويلي رفيع المستوى كانت ألقت القبض عليه بناء على مذكرة توقيف أميركية بسبب تهريبه للمخدرات. ومن الواضح أن معارضة عن إدارة أوباما بات يعتبر أيسر من معارضة النظام «التشافيزي» اليساري في كاراكاس. وعلاوة على ذلك، توجد تايلاند، التي تعتبر حليفة أميركية وثيقة غير منضمة لحلف "الناتو"، حيث قام الجيش بانقلاب عسكري ضد الحكومة المنتخبة على رغم من معرفته أن القانون الأميركي سيقتضي وقف المساعدات العسكرية؛ وكذلك بورما التي حنثت في وعود الإصلاح السياسي التي تعهد بها رئيسها شخصياً لأوباما العام الماضي. وأخبرني أحد موظفي السياسات الخارجية في الكونجرس الأسبوع الماضي بأن حلفاء الولايات المتحدة يفقدون الثقة فيها، وثمة إجماع دولي على أن الولايات المتحدة لا يمكن الاعتماد عليها في الوفاء بالتزاماتها وخطوطها الحمراء، حتى مع حلفائها، والنتيجة هي حرية للجميع يمكن مشاهدتها في تحدي النظام الجورجي وكذلك في رفض القيادات الإسرائيلية للدبلوماسية الأميركية. ولكن كيف خسر أوباما نفوذه؟ الرئيس الأميركي يصوره مؤيدوه على أنه ضحية لأخطاء سابقه ولفترة مضطربة في الشؤون العالمية. ولكن كثيراً من الدبلوماسيين والمسؤولين الأجانب الذين تحدثت معهم يرونها بصورة مختلفة، ويشيرون إلى سلسلة من الخطوات التي سرعت انهيار النفوذ الأميركي. وأولى هذه الخطوات هي الانسحابات العسكرية المتهورة من العراق وأفغانستان، التي ربطها أوباما بجداول زمنية اعتباطية (أو سياسية) بدلاً من الظروف على الأرض. وثاني هذه الخطوات قرار أوباما بعدم المضي قدماً في الضربات الجوية ضد النظام السوري بعد استخدامه أسلحة كيميائية العام الماضي. وحقيقي أن الرئيس نجح في تحويل تراجعه إلى عملية ناجحة بدرجة كبيرة أزال من خلالها مخزون الأسلحة الكيميائية السوري المعلن. غير أن كثيراً من المسؤولين الأجانب، خصوصاً في آسيا، يشمون في قرار الإدارة بشأن سوريا رائحة عدم الرغبة في المضي قدماً صوب الخطوط الحمراء الأخرى، سواء حيال بحر الصين الجنوبي أو برنامج إيران النووي. وعلاوة على ذلك، هناك خطابات أوباما، إذ أعلن الخريف الماضي في الأمم المتحدة أن مخاوف حقوق الإنسان الأميركية سيتم احتوائها مع الحكومات «التي تتعاون معنا في مصالحنا الأساسية»، والتي قال إنها تشمل حرية تدفق النفط، من دون الإشارة إلى تعزيز الديمقراطية أو منع الإبادة الجماعية. وفي خطابه الذي ألقاه في أكاديمية «ويست بوينت» في مايو الماضي، أثنى على «الإصلاحات السياسية في بورما التي أصبحت مجتمعاً مفتوحاً بعد أن ظلت لفترة طويلة منغلقة، من دون الإشارة إلى وعود جنرالات الجيش، ومن ثم شجع التراجع عنها والحنث بها. وربما أن فشل الإدارة غير المبرر تماماً يتمثل في ترددها في الرد على الاستخفاف بها من قبل قوى صغيرة. ويمكن للإدارة أن تعاقب بسهولة وتردع تلك الحكومات، ويمكنها سحب سفرائها، ومنع المساعدات العسكرية، وإلغاء تأشيرات زيارة المسؤولين. لكن الرسالة التي وُجّهت كان مفادها أنه من الممكن تحدي إدارة أوباما بلا حساب أو عقاب.. النفوذ يتراجع ولا يزال فقدان الثقة مستمراً! -------- يُنشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس"