مع تواصل العدوان الإسرائيلي الهمجي الغاشم على غزة بدأت ردود الفعل الدولية تجاه هذا العدوان تأخذ بالتدريج شكل الرفض والتنديد على نحو حمل في هذه المرة ملامح جديدة تنبئ بأن ثمة أملاً في أن يكسب الفلسطينيون، بمساعدة العرب والقوى الدولية المساندة لهم أو على الأقل المتعاطفة معهم، المعركة لدى الرأي العام العالمي. ولم تكن هذه هي المرة الأولى بطبيعة الحال التي يبدو فيها أن قطاعات مهمة من هذا الرأي العام قد بدأت تراجع مواقفها من إسرائيل على ضوء اعتداءاتها الوحشية المتكررة على الشعب الفلسطيني وبالذات أهل غزة، فثمة مؤشرات على أن هذه التحولات قد بدأت مع مطلع القرن الحالي وبالتحديد في أعقاب الطريقة التي قمعت بها إسرائيل الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000، فقد انتشرت بعد ذلك في أوساط المثقفين اليساريين في أوروبا وكذلك الدوائر الأكاديمية في الولايات المتحدة اتجاهات مؤادها أن إسرائيل لا تعدو أن تكون دولة من بقايا العهد الاستعماري تمارس الإبادة الجماعية في حق الأبرياء ومآلها النهائي هو الزوال (بمعنى تجربة تصفية الاستعمار الاستيطاني في جنوب أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي). وهناك ما يشير إلى أن نطاق المواقف الدولية الرافضة للعدوان الإسرائيلي الراهن على غزة والمنددة به يتجه إلى الاتساع ومضمونها يتحول على نحو أكثر تشدداً. ولعل أول ما يلفت الاهتمام في هذه التحولات ذلك الذي يجري في أميركا اللاتينية، فقد أعلن الرئيس البوليفي إسرائيل «دولة إرهابية» بعد أن كان قد قطع العلاقات معها رسمياً في 2009 عقب عدوانها الوحشي أيضاً على غزة في 2008/2009، وزاد الرئيس البوليفي على ذلك بأن اعتبر الاتفاق الموقع بين الدولتين في 1972 لاغياً وهو الاتفاق الذي كان يتيح حرية سفر الإسرائيليين إلى بوليفيا وقد تم التوصل إليه في ظل نظام ديكتاتوري، وبالتالي سيكون الإسرائيليون مطالبين بالحصول على تأشيرة لدخول بوليفيا، وسيتعين على إدارة الهجرة أن تراجع طلبات التأشيرات. وبرر الرئيس البوليفي مواقفه بأن إسرائيل لا تحترم المبادئ أو الأهداف الخاصة بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويضاف إلى هذا الموقف البوليفي الحاسم أيضاً سحب الإكوادور والبرازيل لسفيريهما في إسرائيل، ووصف رئيسة البرازيل للموقف بأنه خطير، وعندما سئُلت عما إذا كانت أفعال إسرائيل تمثل «إبادة جماعية» قالت «لا أعتقد أنها إبادة جماعية ولكني أرى أنها مذبحة». وعلى صعيد الأمم المتحدة يمكن الزعم أيضاً بأن تحولاً في المواقف، وليس الأفعال، قد حدث، فقد اضطر أمينها العام إلى أن يقول أثناء زيارته لكوستاريكا: «تعرضت مدرسة تابعة للأمم المتحدة تستقبل آلاف العائلات الفلسطينية لهجوم يستدعي الإدانة. هذا هجوم غير مبرر يستوجب المحاسبة وإحقاق العدالة». واضطر مجلس الأمن كذلك في إطار القيود القانونية التي تحيط بعمله إلى الاكتفاء بالدعوة إلى الوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار والمطالبة بهدنات إنسانية لإغاثة السكان، وهو ما رفضته إسرائيل حيث أعلن رئيس حكومتها أنه لن يقبل أي اقتراح يمنع الجيش الإسرائيلي من إتمام مهمة نسف الأنفاق. أما مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فهو متحرر من قيود مجلس الأمن وقد أدان بأشد العبارات الانتهاكات واسعة النطاق والممنهجة والجسيمة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية الناشئة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وذلك بموافقة 29 دولة وامتناع 17 دولة عن التصويت غالبيتها من دول الاتحاد الأوروبي ورفض دولة واحدة هي الولايات المتحدة. واتهمت رئيسة مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في السياق نفسه إسرائيل بالتحدي المتعمد للقانون الدولي بمواصلة قصف المدارس والمستشفيات والمنازل في غزة، وصرحت للصحفيين في جنيف بأن هذه الأمور لا تتم بصورة عرَضية بل تبدو كتحدٍّ متعمد للالتزامات التي يفرضها القانون الدولي على إسرائيل. أما المنظمات والروابط الدولية غير الحكومية فهي متحررة بطبيعة الحال من قيود المنظمات الرسمية ولذلك كانت مواقفها أكثر صرامة وحزماً، فقد سارعت «منظمة العفو الدولية» إلى التنديد بإعلان وزارة الدفاع الأميركية البدء في تزويد إسرائيل بكميات من الذخيرة لتعويض النقص في مستودعاتها جراء العمليات المستمرة ضد قطاع غزة منذ 24 يوماً (وقت إعلان القرار)، وقالت منظمة «مراسلون بلا حدود» في بيان لها في 31 يوليو الماضي إن جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يتوانى عن استهداف الصحفيين الفلسطينيين سواء كانوا يقومون بتغطية وصول الجرحى إلى المستشفيات في غزة أو يواكبون تظاهرات الضفة الغربية المناهضة للعدوان، مشيرة إلى تعرض قناة وإذاعة «الأقصى» للقصف في يومي 27 و29 يوليو الماضي. وأدانت المنظمة بأشد العبارات ما يقترفه الجيش الإسرائيلي من استهداف متعمد لوسائل الإعلام التابعة لحركة «حماس»، وأوضحت أن قيام المؤسسات بالدعاية الإعلامية لا يشكل حجة كافية لجعلها أهدافاً عسكرية، وذكّرت في هذا الصدد برأي لجنة الخبراء التي أنشأها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بخصوص قصف حلف الأطلسي في 1999 وسائل إعلام معادية، حيث أوضحت اللجنة أن الصحفي أو وسيلة الإعلام لا يمكن أن يشكلا هدفاً مشروعاً لمجرد نشر الدعاية. وكذلك أدانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الهجوم على سيارتي إسعاف باعتباره انتهاكاً خطيراً لقوانين الحرب. بل لقد امتد التحول إلى عدد من الدول الأوروبية المعروفة بتأييدها لإسرائيل، وقد يكون المثال الأبرز في هذا الصدد هو موقف وزير الخارجية البريطاني الذي صرح بأن بريطانيا تعتقد أن الوضع في غزة لا يحتمل، وقد يؤدي هذا إلى زيادة في الهجمات المناهضة للسامية على اليهود البريطانيين. وأكد أن الرأي العام الغربي يتحول سريعاً ضد إسرائيل بسبب حجم العمليات التي تشنها في غزة. وتأتي هذه التصريحات في إطار مظاهرات حاشدة وقعت في عدة عواصم أوروبية أبرزها باريس وفيينا وبروكسل ولندن بالإضافة إلى روتردام. وكذلك برزت مواقف متقدمة للغاية من رموز مجتمعية في أوروربا والولايات المتحدة على رأسها فنانون وأدباء وصحفيون ورياضيون. وعلى رغم أن هذا المظهر من مظاهر رفض الرأي العام العالمي للعدوان الإسرائيلي قد امتد إلى الولايات المتحدة فإن الموقف الأميركي الرسمي قد مثل كما هي العادة نشازاً فاق الحدود عن كل ما سبق، ويحتاج إمعان النظر في هذا الموقف وقفة تأمل خاصة.