خلال العقود الماضية، مضت اليابان في تطوير صناعتها العسكرية، غير آبهة بالمادة التاسعة من دستورها الذي تمت صياغته تحت حراب الأميركيين في أعقاب هزيمتها في الحرب الكونية الثانية والتي تحظر عليها الدخول في مغامرات عسكرية بما في ذلك إنتاج السلاح وتصديره. فطوكيو ومعها حليفتها واشنطن لم تر في ذلك خرقا لهذه المادة طالماً أن المبرر هو الدفاع عن النفس ضد المخاطر المحتملة القادمة من الصين. لكن اليوم نشأ وضع جديد هو حاجة الأميركيين لبعض التقنيات العسكرية اليابانية الجاهزة من أجل استخدامها في صواريخهم من نوع «باك- 2 » المنتظر بيعها لدولة قطر بموجب صفقة عسكرية جديدة تبلغ قيمتها 11 مليار دولار ــ وقعت الصفقة بالفعل في 14 يوليو 2014 ــ وتتضمن تزويد قطر بأنظمة دفاع جوية متطورة شاملة جيلا جديدا من صواريخ باتريوت ذات الانظمة الحساسة. علما بأن شركة «راي ثيون» للصناعات الحربية الأميركية كانت قد منحت شركتي «ميتسوبيشي» و«نيكي» اليابانيتين في وقت سابق ترخيصاً بانتاج تلك الأنظمة الحساسة لأغراض استخدامات جيش الدفاع الياباني الذاتية، حيث فضلت «راي ثيون» أن توكل أمر تصنيع تلك الأنظمة الحساسة لشركات الحليف الياباني كي تركز كامل جهودها على صناعة الجيل المتطور الثالث لصواريخ «باك ــ 3». ومن المعروف في هذا السياق أن الحكومة اليابانية، وبموافقة الأميركيين، خففت منذ أبريل الماضي الكثير من القيود على تصدير تكنولوجياتها العسكرية إلى الخارج، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1967، الأمر الذي يعني أن سبل تصدير ما تطلبه الآلة الحربية الأميركية ممهدة ولا تحتاج إلا لموافقة شكلية من كل من مجلس الأمن الوطني الذي تأسس في ديسمبر 2013 خصيصاً من أجل تسريع تنفيذ السياسات الدفاعية الجديدة، وحكومة رئيس الوزراء «شينزو أبي» التي يـُعزى إليها ما تشهده الصناعات العسكرية اليابانية من توسع ونمو ومشاركة في تطوير تكنولوجيات السلاح على المستوى العالمي، ناهيك عن خطواتها الجريئة للتخلص من القيود المهينة التي فرضها الغرب على اليابان بعد هزيمة دول المحور. غير أن هذا التطور لا يعني أن طوكيو أصبحت حرة تماما فيما يتعلق بالانتاج الحربي وتصديره. فالأمر لا يزال محكوماً بثلاثة مبادئ رئيسية هي: الشفافية التامة في صفقات تسليح الآخر، والتشديد على عدم وصول الصادرات العسكرية إلى أطراف ثالثة، ومنع التصدير إلى دول وأنظمة منخرطة في الصراعات والحروب تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة. وهناك شرط رابع يتعلق بضرورة قيام اليابان بتزويد المجتمع الدولي سنوياً بتقارير واضحة وشاملة عن حجم مبيعاتها العسكرية ووجهاتها. وبطبيعة الحال، فإن تغير المشهد بهذه الطريقة أقلق الصينيين، الذين راودهم الكثير من المخاوف حول عودة العقيدة العسكرية اليابانية منذ أن بدأت اليابان قبل عدة سنوات عملية تخفيف القيود الخاصة بتصدير بعض المعدات والتجهيزات ذات الاستعمالات العسكرية والمدنية المزدوجة تحت شعار «المساهمة في عمليات الإغاثة الإنسانية» في مناطق النزاع والحروب، أو بحجة حماية طرق الملاحة، والإمدادات النفطية القادمة من دول الشرق الأوسط على نحو ما فعلته في حرب تحرير الكويت وما فعلته بــُعيد الغزو الأميركي للعراق. كما أقلق الأمر الكوريين الجنوبيين الذين عانوا طويلاً من غطرسة العسكرية اليابانية ونزعتها الإمبريالية. وتعليقاً على هذه المخاوف الصينية والكورية الجنوبية، تقول الحكومة اليابانية إن الشعب الياباني ملتزم التزاماً كاملاً بالسلام ومبدأ عدم استخدام القوة في حل الخلافات، وضرورة حلها بالطرق الودية، وأنه يكرر للمرة الألف أنه لاعودة لسياسات ونزعات ما قبل الحرب العالمية الثانية. غير أن المشرعين اليابانيين أعربوا في أكثر من مناسبة أن بعض مواد الدستور، ولاسيما المادة التاسعة، تمت صياغتها قبل عقود من الزمن، وأنه آن الأوان لتغييرها بما يتناسب مع الأوضاع الراهنة في بحر الصين الجنوبي، حيث تتصرف بكين ــ طبقا لهم ــ بعنجهية وتريد فرض الأمر الواقع الذي يخدم مصالحها وحدها، مشيرين إلى قرارها المنفرد برسم منطقة حظر جوي فوق بحر الصين الجنوبي، وتحرشها الدائم بسفن الصيد اليابانية وإطلاقها للنيران عليهم، ومطالبتها بأرخبيل «سينكاكو» التي تطلق عليها اسم «ديايوو»، وتنديدها الدائم بزعماء اليابان كلما زاروا مقبرة «ياسوكوني»، حيث رفات جنرالات الحروب اليابانية. والجدير بالذكر أن وزير الدفاع الياباني «أسو» تسبب في عاصفة من الانتقادات الصينية والكورية الجنوبية تجاه بلاده في الأول من أغسطس 2013، حينما صرح بأن على بلاده أن تعيد كتابة دستورها على نحو ما فعله النازيون الألمان حينما تخلصوا من دستور عام 1919، الأمر الذي أرغم الوزير على الاعتذار، قائلاً إن تصريحه قد أُخرج من سياقه. وقد علق البروفسور «هيجو ساتو» من جامعة «تاكاشوكو» اليابانية على هذه التطورات قائلاً: إن الصناعات العسكرية اليابانية تبدو على أي حال متخلفة قياساً بمثيلاتها في دول الجوار الكبرى كالصين وروسيا اللتين بينهما وبين اليابان الكثير من الخلافات والأزمات حول الأراضي والمياه وذكريات الحروب والغزوات الماضية. أما السبب، طبقا لتفسيره، فيكمن في أن اليابان اعتمدت طويلاً على الحماية الأميركية، فلم تطور قدراتها الدفاعية والحربية الذاتية، ناهيك عن القيود المفروضة عليها في هذا المجال منذ عام 1945. غير أن ما يلفت النظر أن حكومة «شينزو أبي» قامت في عام 2013، ولأول مرة منذ 11 عاماً، برفع الميزانية المخصصة للإنفاق العسكري إلى 57 مليار دولار، الأمر الذي وضع اليابان في المرتبة الخامسة عالمياً لجهة حجم الميزانيات الدفاعية بعد الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا بالترتيب. وعلى الرغم من هذا التطور، فإن اليابان لا زالت الأقل بين الدول العشرين الأكثر إنفاقاً على التسلح، ذلك أن موازنة الدفاع اليابانية لا تشكل سوى نسبة 1.1 بالمائة من إجمالي حجم الناتج المحلي. ـ ـ ـ ـ ـ د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين Elmadani@batelco.com.bh