من كان يحكم مصر في فترة حكم جماعة «الإخوان المسلمين»؟ هل هو رئيس الجمهورية وفقاً للأعراف الدستورية، أم كان مكتب الإرشاد برئاسة المرشد العام الذي كان هو الحاكم الفعلي بوساطة التوجيهات الملزمة لرئيس الجمهورية، والذي كان مجبراً على طاعتها بدقة إعمالاً لمبدأ السمع والطاعة الذي يدين به كل أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين»؟ هناك مؤشرات متعددة على أن الرئيس المعزول الدكتور مرسي لم تكن له إرادة سياسية مستقلة عن جماعة الإخوان المسلمين ولم يكن صاحب قرار. ولعل الدليل المادي على ذلك التسجيل المسرب والموجود على اليوتيوب لأحد اجتماعات مكتب الإرشاد برئاسة الدكتور محمد بديع المرشد العام وحضور الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، والذي كان يعرض تقريراً عن اتصالاته بالساسة الأميركان وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي السابق «جـــيمي كارتر». كان يحكي بالتفصيل لدرجة تحديده لطريقة جلوس «كارتر»، وقرر أثناء عرضه أنه أجرى هذه المقابلات بعد موافقة مكتب الإرشاد. والواقع أنني كثيراً ما أتأمل وجوه أعضاء مكتب «الإرشاد» في صورة شهيرة أخذت لهم جميعاً. وأسأل نفسي – مع إقراري أنهم كلهم شخصيات محترمة ومنهم أساتذة جامعيون – من هم؟ وكيف يفكرون، وما هي رؤيتهم السياسية، وما هي أفكارهم الاجتماعية؟ غموض كامل يحيط بهؤلاء، ويمنعنا من أن نعرف ما هو جوهر رؤيتهم للعالم؟ هم في الواقع أشبه ما يكونون بجمعية «ماسونية» سرية يقبعون وراء ستار مكتب الإرشاد ويحركون بخيوط خفية رئيس الجمهورية «الإخواني»! والدليل على ذلك هو إصدار الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي الإعلان الدستوري الشهير الذي كان في واقع الأمر انقلاباً كاملاً على الشرعية التي يتشدق بها «الإخوان» كثيراً، لأنه جمد المؤسسة القضائية، وحصّن الجمعية التأسيسية، وحصن مجلس الشورى «الإخواني»، بل وفي مبالغة استبدادية لا سابقة لها حصن قراراته في الماضي والحاضر والمستقبل! وإذا تتبعنا تصريحات الشخصيات السياسية الرئيسية في حكم «الإخوان» بعد إصدار الإعلان الدستوري لاندهشنا دهشة شديدة لأن نائب الرئيس المستشار محمود مكي أنكر معرفته به، وكذلك المستشار القانوني لرئيس الجمهورية الذي نفى أنه عرض عليه قبل إصداره، أما وزير العدل السابق المستشار أحمد مكي- الذي نناقش أفكاره في الحوار الصحفي المهم الذي أجري معه- فقد شاهدته على شاشة التليفزيون بعين رأسي وهو يصرح قائلاً في وصف الإعلان الدستوري الباطل «إن أهدافه نبيلة ولكن صياغته رديئة»، فكأن سيادة المستشار وافق على المضمون، ولكنه اعترض على الصياغة وهي مسألة شكلية. كان المستشار «مكي» في حرج شديد، وهو يدلي بالتصريح، لأنه- وزير العدل- كيف تم تجاوزه بهذه الصورة الصارخة والتي تفتقر إلى أدنى قواعد اللياقة السياسية؟ ويدهشني أن يجيب المستشار «مكي» على سؤال وجه إليه وهو: هل تعبت من المعارضة، وفقدت الأمل في التعبير؟ إذ قال «ينتابني نوع من الراحة بقول كلمة الحق سميها معارضة، أو أي شيء آخر» وفي موضع آخر يقول «عارضت مرسي وأنا ضمن حكومته». إذا كان المستشار «مكي» عارض «مرسي» – كما يقول- فلماذا لم يستقل فور صدور الإعلان الدستوري الذي كان أحد أهدافه الإلغاء الفعلي للقضاء، واستمرار اللجنة التأسيسية رغم العوار القانوني الذي اعتورها، وكذلك مجلس الشورى الباطل؟ استقالته الثورية كانت هي الخطوة الحاسمة لكي يعلن على الملأ معارضته للإعلان وحرصه على استقلال القضاء الذي كان أحد مستشاريه الكبار ورفضه لإسقاط القواعد الدستورية. ولكنه مع ذلك يقول إن مرسي ظلم كثيراً، ولم يبين لنا كيف ظلم ومن ظلمه؟ قد تكون الإجابة المضمرة أن «مكتب الإرشاد» ظلمه في الواقع لأنه ألغى شخصيته تماماً، وأجبره على أن ينفذ تعليماته حتى لو لم يكن مقتنعاً بها. غير أنه بالقطع فإن الأحزاب السياسية المعارضة، لم تظلمه لأنه سبق له وهو مجرد مرشح من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية أن صرح قائلاً لو «نجحت فإن حكم الإخوان سيكون مشاركة لا مغالبة». ولكنه بعد أن نجح وأصبح رئيساً للجمهورية خالف ما قال تماماً، وتحول حكم «الإخوان» إلى مغالبة لا مشاركة! وتم إقصاء كافة الأحزاب السياسية، وخطط مكتب الإرشاد لاستئثار جماعة «الإخوان» بكل المؤسسات السياسية، وضمان أن تكون لهم الغالبية فيها حتى يسيطروا سيطرة كاملة على عملية صنع القرار. ويلفت النظر بشدة في مجال معارضة المستشار مكي للانقلاب الشعبي في 30 يونيو، وما ترتب عليه من إعلان خارطة الطريق- والتي أدى تطبيقها إلى انتخاب السيسي رئيساً للجمهورية- أنه يصر على أنه بحكم خلفيته العسكرية إنما يحكم باسم المؤسسة العسكرية! ووفقاً لرأيه فإن حكم السيسي ينبغي أن يكون مؤقتاً، لأنه عليه من بعد أن يسلمه للمدنيين لأن وظيفة الجيش أن يكون حامياً لا أن يكون حاكماً. والواقع أن هذه الفكرة التي يشارك فيها المستشار مكي بعض تيارات النشطاء السياسيين الذين يتحدثون وهماً عن عسكرة الدولة، و«عودة الدولة الأمنية» تحتاج إلى تحليل نقدي دقيق. وذلك لأن الفيصل في الحكم على نظام سياسي ما ومدى ديموقراطيته وقدرته على تحقيق المطالب الشعبية ينبغي ألا يركز على خلفية رئيس الجمهورية، وهل جاء من المؤسسة العسكرية أو هو مدني. وذلك لأنه في التجارب السياسية المقارنة في أعرق الديموقراطيات مثل فرنسا حكمها الجنرال ديجول وهو القائد العسكري الفذ بطل المقاومة الفرنسية، والذي استطاع أن يحقق أعظم إصلاح ديموقراطي في بلاده، حين غيّر النظام السياسي ليصبح رئاسياً بعد أن كان برلمانياً أدى إلى تفكك المجتمع، وحقق بذلك الاستقرار السياسي الذي تنعم به فرنسا حتى الآن. وإذا نظرنا إلى الولايات المتحدة الأميركية سنجد في تاريخها المعاصر أن الجنرال أيزنهاور أصبح بعد الحرب العالمية الثانية رئيساً للجمهورية، ومارس دوره كرئيس ديموقراطي بأفضل صورة ممكنة، ولم تمنعه خلفيته العسكرية من الممارسة الديموقراطية الحقة. وهكذا يمكن القول إن الإشارة إلى الخلفية العسكرية للرئيس السيسى لأنه جاء من القوات المسلحة المصرية لا تمنع من أن يكون رئيساً ديموقراطياً أصيلاً. ويكفي لدحض هذه الحجة الباطلة أن جمال عبد الناصر استطاع – على الرغم من خلفيته العسكرية – أن يحقق أعظم مشروع للعدالة الاجتماعية تم تحقيقه في مصر المعاصرة.