ليست هناك علاقة حتمية بين مواقع الدول في هيكل النظام العالمي والإنجازات التي تحققها في مجال ما، وخاصة كرة القدم التي تحظى باهتمام وشعبية لا يتوافران لغيرها في مختلف أنحاء العالم. لذلك فما حصول ألمانيا على كأس العالم بعد أداء مميز للغاية في دورته العشرين التي انتهت في 13 يوليو الجاري، في الوقت الذي يصعد نجمها في النظام العالمي، إلا مصادفة تاريخية. غير أنها مصادفة لا تخلو من دلالة، وهي أن ألمانيا حققت نجاحاً كبيراً خلال العقدين الأخيرين في مجالات عدة في آن معاً، مما يؤهلها لدور أكبر على الصعيد العالمي بوجه عام، وفي الإطار الأوروبي بصفة خاصة. لذلك تتصرف مؤسسات الدولة والمجتمع فيها بثقة متزايدة تفوق معظم البلاد الكبرى والصاعدة التي مازالت تداعيات الأزمة المالية مؤثرة عليها، إضافة إلى مشاكل داخلية متزايدة في كثير منها. وإذا كانت الثقة واضحة في أداء الحكومة الألمانية بوجه عام، فقد كانت أكثر وضوحاً في تعاملها، هي والمؤسسات المسؤولة عن منتخب بلادها الكروي، مع «مونديال» البرازيل منذ اللحظة الأولى. فقد كان هذا المنتخب هو الوحيد الذي ذهب إلى البرازيل واثقاً من الانتصار والتتويج، وليس فقط متمنياً ذلك. كان هذا واضحاً في خطاب المسؤولين في الاتحاد الألماني لكرة القدم وإدارة المنتخب، كما في سلوك المستشارة ميركل التي حضرت مباراة المنتخب أمام البرتغال في 16 يونيو، ومباراته النهائية أمام الأرجنتين في 13 يوليو. كما يُلفت الانتباه قولها عندما غادرت البرازيل بعد مباراة منتخب بلدها إنها عائدة لحضور النهائي. وقد عادت بالفعل، بينما غابت رئيسة الأرجنتين كريستينا كيرشنر، رغم أنها أقرب جغرافياً إلى البرازيل. فقد كان سلوك ميركل ينضح بثقة نجد مثلها وبدرجة أكبر في مختلف المجالات. غير أن هذه الثقة لا ترتبط بتراكم إنجازات ألمانيا فقط، بل بما تمثله من حالة فريدة على صعيد موازين القوى المتغيرة في النظام العالمي أيضاً. فهذه هي المرة الأولى التي تحجم فيها دولة كبرى عن السعي إلى دور قيادي أكبر تستحقه، بل تتردد في التقدم نحوه رغم أنها تلقى قبولا وترحيباً من جانب القوى الأخرى بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. ففضلا عن نجاحها المتراكم الذي جعل اقتصادها هو الرابع عالمياً، وتحملها العبء الأكبر خلال أزمة «اليورو»، وفي مساعدة دول أوروبية كانت معرضة للانهيار نتيجة أزمة 2008 المالية، وإسهامها المتزايد في إنتاج المعرفة العالمية، فهي تتمتع باستقرار سياسي يرتبط بثقة شعبية في حكومتها ونخبتها. وهي تبدو استثناءً في هذا المجال بين دول الاتحاد الأوروبي التي يشهد معظمها تراجعاً متزايداً في ثقة الشعوب في حكوماتها بلغ ذروته في فرنسا. لذلك بدأت ميركل ولايتها الثالثة قبل شهور في أجواء من التفاؤل يندر مثلها في أي من الدول الكبرى. وهذا يفسر اعتراف هذه الدول وغيرها بأهمية دور ألمانيا. ولم يحل عدم حصولها على عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي دون إشراكها في بحث كثير من القضايا الإقليمية والعالمية على قدم المساواة مع الأعضاء الخمسة الدائمين وإيجاد صيغة جديدة غير رسمية يُطلق عليها (5+1). كما أنها في مقدمة الدول المرشحة للعضوية الدائمة عندما يتم توسيع نطاق مجلس الأمن في إطار مشروع لإصلاح الأمم المتحدة يراوح مكانه منذ أكثر من عقد. ومع ذلك، تظل ألمانيا مترددة في التقدم للاضطلاع بدور أكبر، ليس فقط في النظام العالمي، ولكن أيضاً في إطار الاتحاد الأوروبي. وتمثل هذه القضية إحدى أكبر الإشكاليات التي تواجه النخبة السياسية الألمانية لأسباب عدة أهمها أربعة. أولها القلق من الأعباء الجديدة التي ستترتب على اضطلاعها بدور القائد الأوروبي الذي يناديها الآن، وتقدمها خطوة أو أكثر في هيكل النظام العالمي الذي تتسم قمته بمزيج من السيولة والاضطراب. لكن هذا ليس سبباً كافياً بالتأكيد لأن ألمانيا اضطرت بالفعل إلى تحمل أعباء كبيرة على المستوى الأوروبي في السنوات الأخيرة. لذلك يبرز سبب ثان هو أن قضية القيادة الأوروبية والعالمية ظهرت نتيجة ملابسات ترتبط بظروف خارجية أكثر مما تتعلق بمبادرة داخلية. فهي لم تكن مطروحة على جدول أعمال النخبة السياسية الألمانية. لذلك فهي تتطلب بحثاً يحتاج –على الطريقة الألمانية– إلى وقت غير قصير. فالعقل الألماني لا يستسيغ فكرة القيام بعمل كبير لمجرد ملء فراغ أو تلبية متطلبات يمكن التعامل معها بصورة أخرى، ويفضل ارتباط أي تحرك باستراتيجية متكاملة. لذلك ربما يجوز القول إن الألمان يريدون أن تكون قيادتهم لأوروبا، ومشاركتهم الفاعلة في قيادة العالم، «صناعة ألمانية» أولا وأخيراً. وربما يُقال هنا إن ملء فراغ إقليمي أو دولي أمر معتاد تسعى إليه الدول ولا تتردد في الإقدام عليه. غير أن الأمر يختلف بالنسبة إلى نمط التفكير الذي يتميز به الألمان. لكن هناك سببا آخر يدفع إلى التردد في الإقدام على ملء الفراغ، وهو عبرة التاريخ الذي تحمله ألمانيا على كاهلها. فقد قامت السياسة الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على إحداث قطيعة مع تاريخ قريب تحول فخرها الوطني فيه إلى ميل عدواني كان سبباً في خوضها ثلاث حروب انتصرت في إحداها وهُزمت في الثانية ودُمرت، لكنها خرّبت معظم أوروبا معها، في الثالثة. ويبقى سبب رابع لتردد ألمانيا في القيام بدور القائد، وهو أنها تبدو مرتاحة حتى الآن إلى نموذج القيادة الألمانية الفرنسية المشتركة الذي أثبت نجاحه لفترة طويلة كمحرك أساسي للاندماج الأوروبي. وربما ترى إمكان المحافظة على هذا النموذج رغم التعثر الذي أصاب فرنسا على نحو يجعلها في أضعف وضع لها منذ أكثر من قرنين. غير أن الأدوار التي تقوم بها الدول في المسارح الإقليمية والعالمية ليست كلها من اختيارها. فقد تجد ألمانيا نفسها مدفوعة لقيادة أوروبا إذا استمر تعثر فرنسا لفترة طويلة أو ازداد، وخاصة في ظل ضعف اهتمام بريطانيا التي تتأرجح بين خياري الاستمرار داخل الاتحاد الأوروبي والانسحاب منه. وربما يساهم في دفعها نحو هذه القيادة، وإلى الاضطلاع بدور أكبر في النظام العالمي أيضاً، تراجع اطمئنانها إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة. فثمة تغير ملموس في مزاج الرأي العام الألماني تجاه السياسة الأميركية. ورغم أن إرهاصات تصدع محدود بدأت عندما عارضت ألمانيا غزو العراق عام 2003، فلم تظهر ملامح واضحة لهذا التصدع إلا بعد كشف النقاب عن نشاطات التجسس التي تقوم بها وكالة الأمن القومي الأميركي في ألمانيا. وهكذا يبدو أن تطوراً مهماً في نمط القيادة الأوروبية، وربما في هيكل النظام العالمي، بات متوقفاً على قرار ألماني صعب قد يطول أمد اتخاذه.