الدماء العربية، تُسفك وتُستنزف بغزارة، وتذهب هدراً -على امتداد الساحة العربية- إما في سبيل تحقيق أحلام هي أوهام، أو في طريق معارك خاسرة تجلب الكوارث على البلاد والعباد. آلاف البشر يذهبون ضحايا، وآلاف أكثر يسقطون جرحى، وآلاف يُشردون من مدنهم وقراهم ويفقدون بيوتهم، وآلاف آخرون انتهى بهم الحال إلى الموت غرقاً عبر «سفن الموت»، فراراً إلى أوروبا! لقد تحولت الساحة العربية إلى ساحة نزيف مستمر؛ مليشيات مسلحة تقطع الرؤوس وتنشر الخراب والرعب وتفتخر بنشر مشاهد مروعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كشاهد على أفعالها الإجرامية. جماعات العنف الجديدة، فاقت أسلافها من «القاعدة» جنوناً وتوحشاً وضراوة. فقد داسوا كل القيم وانتهكوا كل المحرمات وتجاوزوا كافة الثوابت الدينية، وهم يسعون لتكوين دويلات دينية على أنقاض الدولة الوطنية، دويلات تطبق «الشريعة» بحسب مفهومهم المتشدد، فتهجر المسيحيين والطوائف الدينية من قراهم ومدنهم التي استوطنوها منذ عهود سحيقة، وتستولي على بيوتهم وكنائسهم وتسلب أموالهم. وإلى ذلك يفجرون الآثار التاريخية ويهدمون قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويروعون السكان، ويحبسون المرأة ويحرمونها من التعليم والعمل والخروج، ويفرضون عليها الختان بالإكراه. بل وصل جنونهم إلى فرض تغطية أثداء الأبقار! أي قيمة للبشر لدى هذه الجماعات؟! آلاف الشباب المسلمين، المشحونين بالطاقة والحماسة والعقيدة- ذهبت أرواحهم هدراً في مواطن الهلاك، ففجّروا أنفسهم وفجّروا الآخرين الأبرياء، وزينت لهم منابر دينية وإعلامية وإلكترونية فعلتهم الإجرامية تحت شعارات «الجهاد» والثأر لـ«كرامة الأمة»! إنه شباب ضحايا خطاب ديني تحريضي، ادعى أن تفجير المسلم نفسه في عدوه هو «أسمى الجهاد»، ليتحوَّل شباب الأمة إلى أحزمة ناسفة وقنابل متفجرة وآلات مفخخة، بزعم أن «الغرب إذا كان يملك القنابل الذرية فنحن نملك القنابل البشرية»! وبذلك يستمر نزيف الدم العربي. لكن ألم يكن الأجدى بمشايخ الدين وخطباء المساجد -دينياً ووطنياً- توجيه طاقات الشباب إلى ميادين البناء والتنمية والإعمار، كما يحدث في كافة مجتمعات العالم وبلدانه؟! لا اعتبار للبشر عند هؤلاء، فهناك نحو أربعة آلاف انتحاري عربي، من خيرة شباب الأمة، فجّروا أنفسهم في العراق بحجة مقاومة المحتل خلال عقد، لكن في المقابل نزفوا دماء آلاف البشر الأبرياء، من أطفال ونساء وعمال كادحين، في مطعم شعبي أو في سوق أو في مسجد! أما الأنظمة الثورية العربية (التقدمية) التي رفعت شعارات الوحدة والحرية وتحرير فلسطين، فقد أذاقت شعوبها مُرّ الهوان والذل وزجّت بها في معارك خاسرة، وذهب آلاف البشر ضحايا لسياساتها، وسالت دماء غزيرة على امتداد نصف قرن نتيجة مغامرات غير محسوبة لتلك الأنظمة التي تظاهرت بالعنتريات! ثم جاء «المقاومون» و«الممانعون» و«المغامرون» ليخطفوا القرار الفلسطيني، بل العربي والإسلامي، ليفرضوا رؤيتهم السياسية، حيث احترفوا الدخول في مغامرات ومهاترات لا يفكرون في عواقبها، ليتهموا الأنظمة العربية بالتواطؤ مع المحتل الإسرائيلي تارة، وبالتخاذل عن نصرة الشعب الفلسطيني تارة أخرى.. أما هدفهم الرئيسي من كل ذلك فهو إثارة الشعوب العربية ضد أنظمتها. وهم في ذلك يعبثون بأرواح شعوبهم ومصائر أوطانهم، لكنهم يتحصنون في السراديب ليدفعوا غيرهم من الأطفال والنساء والأبرياء أثماناً باهظة لمغامراتهم تلك! ولا يسمح أولئك المغامرون لأحد بنقدهم أو محاسبتهم عمّا جلبوه من كوارث وسببوه من مآس ونزيف دماء، فضلا عن أن يسألهم أحد: لماذا مثل هذه القرارات الخاطئة؟ هل حسبتم الحساب لعواقبها؟ تتهمون الأنظمة العربية بالتخاذل، فهل نسقتم أو تشاورتم معها قبل الإقدام على مغامراتكم؟! والعجب أنه بعد انتهاء المعارك، يقف «المقاومون» المقامرون على أنقاض الخراب والدمار ليحتفلوا بالانتصار بينما آلاف الجرحى وأمهات الشهداء في حزن وألم! في محاضرة له بدمشق، قبل سنتين، تفاخر قائد «مقاوم» بالانتصار مهوناً من أعداد الشهداء، فقال لا فُض فوه: «إذا خسرنا 1500 شهيد، فإن بناتنا المجاهدات، انجبن خلال فترة العدوان الإسرائيلي السابق 3500 طفل فلسطيني»! رحم الله تعالى الشهداء وأحسن مثواهم، لكن: أليس من حقنا أن نسأل هذا القائد المقاوم: أين كنت أنت وأولادك وقت العدوان؟! المقاومة شرف، ونُصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، حق وواجب، هذا أمر مفروغ منه، ولا يسع عربياً أن يجادل فيه، لكن مساءلة «المقاومين» عن قراراتهم الخاطئة -أيضاً- واجب، من غير مزايدات ولا خطابات تخوين واتهام بالعمالة. لكن هل كتب على الأمهات الفلسطينيات أن ينجبن ليصبح أولادهن وقوداً لمعارك خاسرة، لا تكاد تنتهي لتبدأ من جديد كل سنة أو سنتين ليستمر نزيف الدم الفلسطيني من غير تحقيق أي نتيجة مشرّفة؟! ختاماً: قد تفلح الجهود العربية والدولية في وقف نزيف الدم الفلسطيني، لكن متى يتوقّف نزيف الدم العربي في جميع أرجاء المنطقة؟!