الصين وتايوان بينهما ما صنع الحداد، لدرجة كان معها استخدام كلمة بكين في تايوان جريمة، وكذا استخدام كلمة تايبيه في الصين. وهذا حدث شهدته بنفسي في إحدى زياراتي خلال الثمانينيات للصين الوطنية، حينما طلبتُ من موظفة الخطوط الجوية الصينية أن تحجز لي مقعداً إلى بكين عبر هونغ كونغ، فما كان منها إلا تحذيري بعدم ارتكاب ذلك الفعل مرة أخرى لأنها طبقاً لتعبيرها جريمة لاتغتفر. غير أن علاقات الأمم والشعوب لا تستقر على حال، والأوضاع قابلة للتغيير تبعاً لضغوط العوامل الداخلية التي كثيراً ما تفرض على صناع القرار أنماطاً معينة من السياسات الخارجية. وهذا تحديداً ما حدث لعلاقات بكين مع تايبيه أو علاقات الإخوة الأعداء. فخلال السنوات الأخيرة، لوحظ وجود توجه خجول من قبل الجانبين، كل لأسبابه الخاصة للخروج من المأزق الذي نشأ عام 1949 عن انتصار القوات الشيوعية بقيادة «ماوتسي تونج» على القوات الوطنية بقيادة الماريشال «تشيانغ كاي شيك»، ولجوء الأخير إلى جزيرة فرموزا لتأسيس «جمهورية الصين الوطنية» أو تايوان. فساسة بكين كانوا يسعون إلى استعادة تايوان لتحقيق حلمهم الأكبر في إقامة الصين الكبرى بعدما ضموا التبت واستعادوا هونج كونج ومكاو. وساسة تايبيه كانوا يسعون من وراء التقارب للخروج من العزلة السياسية التي فرضت على بلادهم منذ طرد تايبيه من مجلس الأمن ومنح مقعدها الدائم لبكين، وما تلا ذلك من اعتراف معظم دول العالم بالصين الشيوعية وسحب اعترافها من الصين الوطنية. وقد تجسد ذلك التوجه الخجول في تبادل الزيارات ما بين الشخصيات الرسمية وغير الرسمية عبر مضيق تايوان، علماً بأن المبادرات الأولى جاءت من رجال الأعمال التايوانيين الذين شعروا بأن في الانفتاح على البر الصيني، وما يجري فيه من حراك اقتصادي فائدة لهم وفرصا يجب اقتناصها، طالما أن صناعاتهم وتجارتهم لم تعد قادرة، كما كانت في الماضي، على منافسة الصناعات والتجارة الصينية. وكانت أولى الزيارات هي تلك التي قام بها «ليان تشان» زعيم حزب «الكومنتانغ» الوطني إلى بكين في عام 2005، حيث عقد خلالها اجتماعاً تاريخياً، كان الأول من نوعه منذ 60 عاماً، مع زعيم الحزب الشيوعي الصيني آنذاك «هو جينتاو». وقد مهد ذلك اللقاء التاريخي لعقد منتدى التعاون الاقتصادي التجاري الثقافي عبر مضيق تايوان في بكين عام 2007 بمشاركة 500 شخص من تايوان والبر الصيني. كما أنه مهد الطريق أمام تنظيم سلسلة من المؤتمرات والحلقات الحوارية الهادفة إلى تبادل الآراء حول مسائل التعاون في مجالات السفر والسياحة والتعليم والزراعة والتكنولوجيا والاتصالات. وعلى الرغم من هذه التطورات الإيجابية، فإنها لم تستطع محو كل الشكوك والهواجس المزروعة في رؤوس التايوانيين والصينيين تجاه بعضهم البعض، خصوصاً مع وجود الحزب «التقدمي الديمقراطي» آنذاك في السلطة في تايبيه بشعاراته ومواقفه الداعية إلى إعلان استقلال تايوان نهائياً عن الوطن الأم. غير أنه منذ عام 2008، بدأ نوع من الغزل العلني الأوضح بين النظامين المتخاصمين، وذلك على إثر فوز مرشحة حزب الكومينتانغ «ما يينج جيو» برئاسة البلاد، على حساب مرشح الحزب «التقدمي الديمقراطي»، وكان السبب المباشر هو أن «ما يينغ جيو» تعارض من حيث المبدأ مسألة انفصال تايوان كأمة مستقلة، ناهيك عن أنها سليلة إحدى الأسر التحدرة من البر الصيني في حقبة ما قبل الحرب الأهلية. وقد تعزز موقع الأخيرة بحصول حزبها على81 من أصل المقاعد الـ 113 في الانتخابات التشريعية التايوانية في يناير 2008 ليحقق انتصاراً ساحقاً على الحزب «التقدمي الديمقراطي» الذي حصل على 27 مقعداً فقط. مؤخراً حدث تطور جديد على مسار العلاقات الصينية التايوانية، تمثل في سماح بكين لأول مرة منذ 65 عاماً لأحد مسؤوليها بأن تطأ قدماه أرض تايوان. والإشارة هنا إلى زيارة «زهانج زهيجون» مدير دائرة شؤون تايوان في الخارجية الصينية في الشهر المنصرم إلى تايبيه للتوقيع على اتفاقية تجارية ثنائية مثيرة للجدل. ونصفها بالمثيرة للجدل لأنها تحظى بدعم رئيسة البلاد وحزبها على اعتبار أنها تفتح الباب للتعاون في قطاعات اقتصادية عديدة، وبالتالي تنعش الاقتصاد التايواني، بينما يراها الحزب المعارض وأنصار الاستقلال والقوى الشبابية المنضوية تحت لواء «حركة زهرة عباد الشمس» خلاف ذلك، قائلين إن الاتفاقية ستخلق نفوذاً سياسياً لبكين في تايوان، وتوفر لها أداة لتخريب النظام الديمقراطي للأخيرة. وقد بدا واضحاً منذ الوهلة الأولى لوصول «زهيجون» إلى مطار تايبيه أن البون لا يزال شاسعاً بين مواقف الطرفين، حيث صرح نظيره التايواني «وانغ يو تشي» بأن على بكين أن «تتفهم نظامنا الديمقراطي وأسلوب حياتنا وخيارات شعبنا وحقنا في تقرير مصيرنا»، الأمر الذي اضطر معه الضيف للرد بامتعاض قائلاً: «إن الصين تتفهم ذلك جيداً، وتحترم خيارات الشعب التايواني، وتدعو كل التايوانيين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الحزبية للمساهمة في تنمية علاقات سليمة بين ضفتي مضيق تايوان»، خصوصاً أن زيارته قوبلت بمظاهرات جعلته يلغي جزءاً من جولاته واجتماعاته. وجملة القول أنه على حين ترى بكين أن تايوان إقليم متمرد يجب إخضاعه بالقوة المسلحة إنْ تجرأت حتى بطريقة ديمقراطية على إعلان استقلالها التام، لكن مع اتباع سياسات تنطوي على مزيج من الصبر والدعوة إلى التوحيد السلمي، وفتح أبواب الاستثمار أمام المستثمرين التايوانيين، والكف عن مقاضاة التايوانيين الذين ارتكبوا جرائم في البر الصيني قبل عام 1949، فإن تايبيه ترى في المقابل أن الصين تسعى لفرض هيمنتها عليها ومحو كل ما اختطته لنفسها من هياكل ديمقراطية ونظام اقتصادي حر ضمن مخططها للتمدد في الشرق الأقصى، وأن ما فعلته بهونغ كونغ بعد عودة الأخيرة إلى سيادتها من ديكتاتورية وفرض قيود على حرية التعبير لا يغري التايوانيين بفكرة «بلد واحد ونظامين» التي بموجبها تخلت بريطانيا عن هونغ كونغ للصين في عام 1997.