كأنما كُتب على الشعب الفلسطيني أن يظل مادة للمزايدات والترددات، ليس على المستوى الداخلي وحده، وإنما في أنحاء كثيرة من العالم أحدثها مجموعة الدول الأفريقية وبعض كتابها! كنا نقول إن تشبيه إسرائيل بالنظام العنصري، قد حمانا في أفريقيا من الانقسام، بل وأن تستفيد حركة التحرير الفلسطينية من صلابة الموقف الأفريقي، بقدر ما استفادت «جبهة المؤتمر الوطني الأفريقي» لسنوات طويلة من الحشد ضد النظام العنصري، ثم قلنا إن تبني القمم الأفريقية منذ مؤتمر قمة «كمبالا» 1975 للقول باعتبار فلسطين «قضية أفريقية» سيبقي على المنطق التوحيدي للعمل الأفريقي إلى جانب النضال الفلسطيني، حتى ظل الأمر كذلك لآخر قمة أفريقية، في «مالابو» – غينيا الاستوائية آخر يونيو 2014، أي قبل العدوان الإسرائيلي في فلسطين بعدة أسابيع فقط. كان الموقف في كل هذه المناسبات وغيرها الكثير ينطلق من أن إسرائيل هي قوة الاستعمار الاستيطاني، المعتدية دائماً بحكم الاحتلال غير الشرعي، على الشعب الفلسطيني. وأن ذلك يتطلب موقفاً دولياً موحداً لتصفية الاستعمار الاستيطاني من آخر مواقعه ومنح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته، رغم القبول بمشروع الدولتين على أرض فلسطين، والذي أقرته الأمم المتحدة في جمعيتها العامة مؤخراً. لكن ما حدث في ظرف عدة أسابيع بين منتصف يونيو وأوائل يوليو 2014، نقل لغة البيانات الأفريقية، من خطاب التصور الشامل للقضية وحلها شبه الجذري في الرأي الأفريقي – ومثاله قرار القمة نفسه – إلى لغة التردد لمصلحة النغمة الإسرائيلية الأميركية التي فرضتها روح القوة، وروح التردي الفلسطيني في الوقت نفسه. كان قرار القمة الأفريقية الأخير مازال قوياً، برز فيه -وبحضور ممثل السلطة الفلسطينية المراقب- استنكار«حملة التهويد»، وتأكيد حل الدولتين، وحق فلسطين في عضوية كافة الاتفاقات الدولية، وضرورة المصالحة بين «فتح» و«حماس»، ومقاطعة السلع والمنتجات المصنوعة في المستوطنات في الأراضى الفلسطينية، والانسحاب الشامل من أراضى فلسطين، أي إلى حدود عام 1967، والأراضي العربية في سوريا ولبنان. إنني أقدم هنا عناصر القرار السابق بهذا التفصيل، لتكون موضع دراسة لكثير من حكوماتنا العربية، للعبرة! كما أقدمها للكُتاب والباحثين كتصور للتفكير المتكامل عندما يتحدثون أو يكتبون بدلاً من المهاترات التي لم تعد مفهومة حتى للمواطن البسيط، ونحن الذين كنا نقول في «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» مبكراً إن «قضية فلسطين مصرية». وبينما التصوير والخطاب بهذا الشمول الأفريقي، وإذ بالعدوان الإسرائيلي ينفجر في وجه الشعب الفلسطيني، وينفجر معه مخزون التشظي الفلسطيني والعربي على السواء، فالعدوان يجري- في رأي ساستنا وإعلامنا على غزة وليس فلسطين، والتفاوض على وقف العدوان المدمر مطلوب أن يجري مع «حماس» وحدها وليس مع سلطة معترف بها في كافة الدوائر كحكومة وليس كمجرد تنظيم باسم «حماس» أو «فتح»، بل ويجري تدريجياً وبشكل فج تجاهل حركة «التحرر الوطني الفلسطينية» المعروفة في العالم باسم «منظمة التحرير الفلسطينة» ! ولم تعد الأطراف صاحبة الكلمة في موضوع «وقف القتال» هي «القيادة الفلسطينية»، وإنما صارت مصر أو تركيا أو الدوحة! وكأن فلسطين دون «عاصمة» تتطلب الحديث عنها أولاً، وعند ذكر «طرف فلسطيني» فهي «سلطة محلية» في غزة انتهى موعد تمثيلها الرسمي، أو حكومة تسيير الأعمال لا تلقى الإجماع المناسب! والغريب أن أحداً لا ينتبه كثيراً لمثل هذا الوضع عند الحديث عن «دعم الشعب الفلسطيني»، رغم بداية طرحه في مسألة المعابر، بل وقد يُثار بالنسبة لمستقبل المساعدات! وهذا كله بسبب عملنا الدائم على المدى القصير. لم ندهش إذن لتأخر صدور بيان بشأن هذا العدوان الإسرائيلي من «مفوضية الاتحاد الأفريقي» إلا بعد أسبوعين من بدء العدوان ! وعندما يصدر في 17يوليو 2014، فإنما يعبر عن «قلق» رئيسة مفوضية الاتحاد من «تطورات الموقف»، واستنكارها للعدوان طبعاً «الذي دمر البنية التحتية في غزة...»، وهي إذ تؤيد نضال الشعب الفلسطيني (دون ذكر أي جملة عن قيادته) إنما تطالب «جميع الأطراف الفلسطينية» بوقف «الهجوم» من غزة على إسرائيل بالصواريخ...الخ! وقريب من هذا الموقف كان مضمون خطاب معظم الدوائر الأفريقية، لكن القوى الديموقراطية والشعبية في جنوب أفريقيا نفسها كانت الأكثر قدرة على الاحتفاظ بزخم الدعم الأفريقي الحقيقي للشعب الفلسطيني، فيما صدر عن قيادات بحزب «المؤتمر الوطني» نفسه، ومن اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا (كوساتو) ورابطة شباب جنوب أفريقيا، الذين ما زالوا يتحدثون عن دعم الدول الإمبريالية الغربية الكبرى لإسرائيل (المؤتمر الوطني) وأن «نظام تل أبيب يتصرف كمعبر عن الهيمنة الامبريالية على الشرق الأوسط»، بل وطالب «اتحاد الشباب» بطرد سفير إسرائيل من جنوب أفريقيا. وإن طالبت قوى سياسية أخرى بـ«عودة الطرفين» في إسرائيل وفلسطين إلى مائدة المفاوضات ووقف العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني..الخ لا أعرف ما إذا كان صمت دول أخرى في أنحاء القارة، ممن لهم عادة كلمة في كثير من تطورات الشرق الأوسط، ناتج عن معاناة بعضهم من هجوم المنظمات الإسلامية (نيجيريا-كينيا) مما لا يجعلهم يتصورون الدفاع عن موقف تعبر فيه «حماس الإسلامية » وحدها عن القيادة فيه، أم أن تردد اللغة بين غزة ورام الله والعواصم العربية، هو الذي يؤدي إلى هذا التردد.. أعود للقول هنا إن المسؤول الحقيقي عن تردي الخطاب الدولي، والأفريقي إزاء ما يحدث -غير الاعتبارات الدولية طبعاً-، إنما هو الخطاب العربي عموماً من داخل فلسطين نفسها، ثم من حولها في العواصم العربية، إذ لم يألف الكثيرون في أفريقيا أن ينطلق تنظيم من جزء من المستعمرة ليعبر وحده عما يجري-مع تجاهل سلطات أخرى - في بقية الإقليم، أو يقبل جزء من الإقليم حلولاً لايمكن أن يطبقها الجزء الآخر، وهذا ما يمثله في الواقع الخلاف في فلسطين حول الحديث باسم الشعب الفلسطيني، من بين «أصحاب غزة»، أم من أصحاب «أوسلو» (يذكر الأفارقة منع البانتوستانات في جنوب أفريقيا من قبول الحكم الذاتي أو التمثيل المنفرد كل على حده في الثمانينيات، كما سبق رفض الحل الداخلي في روديسيا عام 1965-66، حتى تم الاستقلال الكامل للبلدين)، ولذا نخشي أن يغيب التعبير الموحد القوى عن المقاومة باعتبارها مقاومة الشعب الفلسطيني كله، والذي يعيش في ظل نظام الأبارتهيد، الذي بات يستنكره العالم على نطاق واسع وبشهادات قوية من كارتر وتشومسكي ومفكرين أفارقة - وغيرهم. إنني آمل ألا يستوعبنا تقديس بريق الصواريخ الفلسطينية من «غزة» لنعطي الخطاب الأفريقي، والعالمي عامة – فرصة تجزئة القضية الفلسطينية أو حرفها عن مفهوم التحرر الوطني الشامل ضد الاستعمار الاستيطاني متحولة إلى مجرد «قوة مقاومة مقاتلة» ما أسهل ما يعتبرونها ضمن القوى الإرهابية، أو قوى العنف الداخلي وغير ذلك من مسلمات الإعلام الغربي. وتستطيع منظماتنا الديموقراطية والشعبية العربية والفلسطينية، أن تمارس هنا دوراً متعدد الوجوه، أوله الضغط لتكوين جبهة نضالية موحدة على أرض فلسطين للتعبير عن قوى الشعب كله، وثانياً، إجراء اتصالات نافعة لمواجهة هذه الخطابات المزيفة نفسها في الغرب، مستفيدين من قوة المظاهرات القائمة ضد إسرائيل، وثالثها سرعة النفاذ إلى الموقف الأفريقي بالاتصال بالمنظمات الشبيهة في كافة المناسبات الأفريقية. وسأذكر للقارئ نموذجين مهمين على المستوى الأفريقي، قريبين لهذا النشاط الواجب، أقربها هو اجتماع «المنتدى الاجتماعي الأفريقي» African Social Forum في داكار في أكتوبر 2014، والذي يلتقي فيه أكبر عدد من النشطاء وممثلي الحركات الاجتماعية والنقابية والمثقفين..الخ. كما يجتمع في جوهانسبرج في ديسمبر 2014 «المنتدى الاجتماعي العالمي» نفسه WSF، والذي يعرف الجميع أهميته وسمعة سابقيه في بورتو أليجري وبومباي وغيرها، كما أن جماهير جنوب أفريقيا تكون هي الأكثر حيوية مع قضايانا كما هي دائماً. وفي مثل هذه الأنشطة يمكن أن يتحقق حضور كافة تنظيمات الشعب الفلسطيني نفسه، بين قرنائه الحقيقيين على المستوى العالمي والأفريقي على السواء. إن أممية التحرر الوطني أوسع نطاقاً وكفاءة من أممية الحل الإسلامي!