كيف يمكن لـ«القاعدة» و«داعش» -ولاحقاً «الدولة الإسلامية» - ومعهما «حماس» والحوثيون في اليمن والعشائر السُّنية في العراق، وقبل تلك الحركات «حزب الله» في لبنان، وصولاً إلى الانفصاليين في أوكرانيا، أن يقرروا مصير دولهم وشعوبهم وتكون لهم كلمة في الحرب أو السلم؟! بل إن الحال وصل إلى أن يصبحوا أكثر تأثيراً ونفوذاً من بعض الحكومات، مع أن نظريات العلاقات الدولية تقول إن الدولة هي اللاعب الأهم والوحيد في النظام العالمي.. وربما أصبحوا أحياناً أهم من دولهم.. إذ يقررون السلم والحرب والتصعيد والتهدئة.. حتى باتوا يُستخدمون كمخلب وأداة في حروب بالوكالة لتحقيق أهداف قد لا تصب بالضرورة في مصلحة دولهم وشعوبهم.. وذلك بمجمله يؤسس لصراع محتدم وفوضى عارمة وعدم استقرار على النحو الذي نراه اليوم. لماذا وكيف تحول النظام العالمي إلى هذه الكيفية، ليُسهم بمعنى ما، في تغيير دور وتأثير الدول وصعود اللاعبين من غير الدول؟ هناك عدة أسباب لحالة الفوضى وعدم الاستقرار التي نشهدها اليوم على المستويين الإقليمي والدولي. وهي أسباب شكلت نظاماً عالمياً وحتى إقليمياً غير مستقر، كما هو الحال في إقليمنا بالشرق الأوسط اليوم، بكل ما يعرفه من اضطراب، ومن ارتفاع لمنسوب النزاعات والتوتر والاحتقان. ولذلك فليس مستغرباً أن نرى اليوم كيف انتقل واقع النظام الإقليمي والعالمي من الاستقرار Order الذي ساد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وتفككه، إلى واقع الفوضى وعدم الاستقرار Disorder الراهن! وقد حصل ذلك لعدة أسباب أبرزها التغير في تركيبة النظام العالمي نفسه وصعود اللاعبين من غير الدول، هذا فضلاً عن تداعيات الأزمة المالية العالمية، وعقيدتي بوش وأوباما، والتراجع الطوعي والإرادي، بل الانكماش والانكفاء الأميركي، في مشهد دولي تحول منذ نهاية الحرب الباردة من نظام ثنائي القطبية إلى آخر أحادي القطبية، ومن ثم جنح بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 إلى أن يصبح نظاماً متطرفاً في الأحادية القطبية بتفرد الولايات المتحدة وأحاديتها المفرِطة. وفي عام 1991 بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، التي استمرت 5 عقود منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أطلق بوش الأب صفة «النظام العالمي الجديد» على المشهد الدولي حينها. وهو واقع يسوده التفوق الأميركي كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي بعد إفلاس وسقوط الشيوعية كنظام موازٍ ومنافس... وكنظرية وتطبيق. وقد أصيبت الشيوعية في مقتل. ومن سمات «النظام العالمي الجديد» كذلك صعود دور المنظمات الدولية وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة التي استعادت دورها بعد أن خرجت من غرفة العناية المركزة التي بقيت فيها مشلولة طوال عقود الحرب الباردة.. وخاصة بعد أن لعبت المنظمة الدولية دوراً متقدماً ومهماً في إسباغ الشرعية الدولية على حرب تحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي باعتماد 12 قراراً أممياً من مجلس الأمن تسمح باستخدام جميع الوسائل المتاحة لإعادة الشرعية وتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة الصادرة على خلفية غزو واحتلال دولة الكويت.. وما يميز تلك الحقبة المهمة من تطور النظام العالمي كان -طبعاً- تربع الولايات المتحدة التي تطلق على نفسها اسم «سيدة العالم الحر» ورئيسها «قائد العالم الحر» على عرش النظام العالمي بلا منافس سواء أكان من دول وطنية، أو من تحالف دول. وهكذا انتهى نظام الثنائية القطبية الدولية بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا الغربية وكندا واليابان وأستراليا من جهة، والاتحاد السوفييتي وحلفائه في أوروبا الشرقية وبعض الدول النامية في آسيا وكوبا من جهة أخرى. وفي العلاقات الدولية يعتبر النظام أحادي القطبية هو أقل الأنظمة استقراراً وأكثرها عرضة للنزاعات والحروب، لأنه يسمح للدولة واللاعب الأقوى بالمغامرات واستعراض العضلات لعدم الخشية من دفع أي ثمن في مواجهة الأطراف الضعيفة.. ولذلك كانت مغامرات أميركا في الصومال وبنما، وبعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 بسبب غياب نظام توازن قوى ووجود شخصية مثل بوش الابن وعقيدته ومبدئه الذي يعتمد على قوة القهر ودبلوماسية الإكراه والعقوبات، وظفت جوقة «المحافظين الجدد» كل مفردات تلك المعادلة بخبث ودهاء لخدمة مصالح أميركا حول العالم، ولتشكيل ملامح النظام الإقليمي في مناطق النفوذ الأميركية وخاصة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وعندها بدأ النظام العالمي يدخل في مرحلة الفوضى واللانظام، حيث خاضت الولايات المتحدة ثلاث حروب بعضها في مخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وقد شنت الحرب الأولى على أفغانستان بعد اعتراف بن لادن بمسؤولية تنظيم «القاعدة» عما سماه «غزوة مانهاتن والبنتاغون»! وبعد أن رفض نظام «طالبان» في أفغانستان تسليم بن لادن لواشنطن. وقد أطلقت أميركا على تلك الحرب تسمية خاطئة قواعدَ ومعنىً هي: «الحرب العالمية على الإرهاب» التي فسرها كثير من الإسلاميين على أنها حرب «صليبية» على الإسلام! واليوم يكرر هذه التسمية رئيس وزراء تركيا أردوغان، في استدرار للتعاطف الإسلامي مع مشروعه وطموحه. وبعدما شنت أميركا حرباً على أفغانستان تحت لافتة كبيرة هي «الحرب على الإرهاب» لمحاربة تنظيم «القاعدة»، ولضربه في عقر داره، ومنع خطره من التمدد والوصول للمدن الأميركية، وفق عقيدة بوش الابن، كانت الحرب التالية على العراق مع «تحالف الراغبين»! وأتبعت تلك الحرب إلى اليوم بسياسة تنفيذ ضربات استباقية بطائرات من دون طيار في باكستان وأفغانستان واليمن والصومال والعراق. هذا فضلاً عن التجسس والتنصت على الخصوم والأعداء والحلفاء، على حد سواء، بما يخالف القانون الدولي! وكل هذا مهد الطريق بشكل كبير لتفشي أجواء الفوضى وعدم الاستقرار. وفي عام 2008 أصيب الاقتصاد الأميركي بنكسة كبيرة بتعثر واحدة من كبريات شركات الاستثمار «ليمان بروذرز» وعطست أميركا، وكما يقال، عندما تعطس أميركا يُصاب العالم كله بالزكام.. وتدحرجت الأزمة المالية بسرعة لتشمل كل الاقتصاد المالي العالمي الذي دخل في كساد كبير، واستنزف المداخيل والإنفاق الأميركي.. وأتت الضربة القاضية بانتصار كبير لأوباما ليصبح أول رئيس غير أبيض يصل إلى البيت الأبيض، وهو في توجهاته يشكل نقيضاً كلياً لسلفه بوش الابن وعقيدته القتالية الهوجاء الذي تسببت مغامراته وحروبه في مقتل 7000 جندي وجرح 50000 عسكري أميركي آخرين، من مليوني جندي أميركي قاتلوا على مدى أكثر من 12 عاماً في حربي العراق وأفغانستان. هذا فضلاً عن خسائر الاقتصاد الأميركي التي قدرها الاقتصادي جوزيف ستيغلتز -الفائز بجائرة نوبل في الاقتصاد- بحوالي 3 تريليونات دولار، بينما يضع بعض الباحثين والدراسات الأخرى مبلغاً خيالياً يصل إلى 6 تريليونات دولار خلال العقود القادمة بسبب التعويضات والعلاج المستمر مدى الحياة لآلاف الجنود المصابين جسدياً ونفسياً.. وهذا كله أنهك ميزانية الولايات المتحدة وجعل صناع القرار، وخاصة في إدارة أوباما، يتراجعون عن أي مغامرات وحروب خارجية كما رأينا في سوريا وإيران وغيرهما.. وهو ما يقلق حلفاء واشنطن، حيث تراجعت الثقة في التزامات الحليف القوي، فيما يسعد ويتشجّع خصوم أميركا على المغامرات سواء من طرف دول كما يفعل بوتين و«كيم يونج أون» والمالكي في العراق، وكذلك الصين وإيران، أو من غير الدول كما يفعل الانفصاليون في أوكرانيا بتحريض ودعم من روسيا، أو «حزب الله» و«حماس» والحوثيون وغيرهم بدعم ومساندة من إيران.. ولهذا وصلنا إلى حالة الفوضى.. واللانظام التي نشهدها الآن على المستوى الإقليمي في أكثر من ساحة، وعلى المستوى الدولي كما نراه اليوم.. ولنا عودة لنكمل، إن شاء الله.