باستثناء جناح الانعزاليين أو حزب الشاي، كان رأي جمهور الناخبين الأميركيين دائماً أن الولايات المتحدة هي حاملة لواء الديمقراطية إلى عالم لم يكتسبها عادة، وربما لا يستحقها. وتضم إدارة أوباما في الوقت الراهن معسكرين ملتزمين رسمياً بنشر مبادئ الديمقراطية والترويج لها، أحدهما في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع «البنتاجون»، ويرغب في توظيف التدمير والاجتياح والنيران في تغيير أنظمة الدول «المتخلفة سياسياً»، كي تتمتع شعوبها بحياة أفضل كتلك التي تعرفها الولايات المتحدة. وقد كان ذلك المعسكر، المرتبط بصورة رئيسة بالحزب الجمهوري والإدارات الأميركية المتعاقبة التي هيمن عليها الجمهوريون (وإن لم يقتصر عليها) مسؤولا منذ حرب الخليج الأولى عن الأذى والدمار الذي قادته الولايات المتحدة في دول الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان في غرب آسيا. وعلاوة على ذلك، فقد كان التزام ذلك المعسكر الدائم في أوروبا، من الأطلسي إلى جبال الأورال، هو ترسيخ ريادة حلف «الناتو» والسيطرة غير المباشرة للولايات المتحدة على مناطق تصل إلى حدود دولة روسية ضعيفة أو تتجاوزها. ومع انتخاب باراك أوباما، كان من المتوقع أن ينحسر تأثير هذه الجماعة السياسية، غير أن ذلك كان ظاهرة مؤقتة، كما يوضح الصراع الداخلي الراهن بين الشرق والغرب في أوكرانيا، والضغط المتزايد في واشنطن من أجل التدخل الأميركي في سوريا والعراق ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، والذي سيطر على أراض شاسعة في كلا البلدين. ويضاف إلى ذلك أيضاً جرس الإنذار بشأن الصين واستمرار تزايد التواجد الأميركي في أفريقيا، بحثاً عن مهام بناء ديمقراطيات جديدة، يوجد الكثير منها (أي من المهمات المذكورة). أما مركز نشاط السياسة الخارجية الثاني في إدارة أوباما فقد كان البيت الأبيض ومكتب السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة. ويتكون ممن لديهم قناعة بالتدخل الإنساني، والذين ساورهم قلق شديد مؤخراً بشأن النضال المدني وبناء الدولة في السودان، «وتولي قيادة المشهد من خلف الستار» في ليبيا، وتأييد التدخل في الثورة السورية، وقد أصبحوا الآن مشغولين بإمكانية -إن لم يكن ترجيح- أن تؤدي أعمال القتل البشعة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي وضمه للأراضي الفلسطينية، إلى انتفاضة ومن ثم قمع عسكري دام آخر للفلسطينيين، وضد قطاع غزة المحاصر على وجه التحديد. ومثلما يعرف العالم، فقد تحمّلت الولايات المتحدة تحت قيادة كافة الحكومات الأميركية المتعاقبة خلال الأعوام الـ64 الماضية، مسؤولية هائلة عن الوضع الراهن في فلسطين وما أفضى إليه بسبب التورط الأميركي المباشر والتشجيع الضمني لإسرائيل على مصادرة أراضي الفلسطينيين وقمع الشعب الفلسطيني، في سياسة ترقى إلى درجة معاقبة الفلسطينيين على المحرقة النازية «الهولوكوست»، لكنها ستلطخ سمعة الحكومة والشعب الإسرائيليين بشكل دائم. ويبدو أن قليلين في مجتمع بناء الديمقراطية الأميركية، سواء النسخة العسكرية أو المقنعين السلميين، قد أجروا أو شجعوا على إجراء أية تقييمات شعبية جادة لأي من أعمال نشر الديمقراطية. وإذا نظرت في الوقت الراهن إلى قائمة الديمقراطيات المستقرة الموثوقة والجادة في العالم، فأكاد لا أرى دولة منها لم «تؤسس» نفسها. وبعضها ورثت المؤسسات البرلمانية وسوابق الحرية المدنية من التجارب الاستعمارية لسكانها، والتي أسهمت في بناء دول مستقلة. وكانت الدول الجديدة ذات الموروث البريطاني هي الأكثر حظاً في هذا المضمار. وقد اعتاد الأميركيون من «المحافظين الجدد»، قبل وبعد غزو أفغانستان والعراق، على زعم أنه بعد الحرب العالمية الثانية «أسس» الحلفاء نظامين ديمقراطيين في ألمانيا واليابان، وزعموا أن ذلك سيعقبه صنيع مماثل في الشرق الأوسط وآسيا. وضمن الاحتلال العسكري لكلتا الدولتين المهزومتين بالتأكيد عدم غرق اليابانيين والألمان في براثن المعارك العسكرية. بيد أن الدولتين كانتا متقدمتين ولديهما مستويات تعليم متميزة. وكان لدى كل منهما مؤسسات نيابية ونظام ملكي دستوري قبل الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945، أذعن الشعبان المهزومان لحكومة وطنية، ومن ثم تكاملا مع المجتمعات الوطنية الديمقراطية خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بينما تعرضا لتهديدات من قبل دول استبدادية مجاورة. ولننظر إلى نتائج الجهود الأميركية بقيادة جورج بوش، ومن بعده باراك أوباما، لإرساء دعائم الديمقراطية في الشرق الأوسط وأفغانستان الآن، وأيضاً إلى أوكرانيا وجورجيا! فقد أصبحت العراق دولة مدمرة، وربما ستتحول قريباً إلى دولة مقسمة. وقد دفعت أفغانستان ثمناً باهظاً مقابل تحريرها من حكومة حركة «طالبان» في عام 2001. وترزح سوريا تحت وطأة حرب أهلية مستعرة. وتواجه أوكرانيا صراعاً إقليمياً وطائفياً، بينما تم إخراج روسيا عن المسار الهادئ للتعاون الدولي الذي أسسه جورباتشوف. وفي النهاية، لننظر إلى ما فعلته هذه الجهود بالولايات المتحدة وحرياتها المدنية وديمقراطيتها! يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»