لا يزال مصير 39 هندياً كانوا يعملون لحساب شركة بناء في الموصل، قبل أن تجتاحها المليشيات المسلحة، إلى حد الآن مجهولاً، وكان من الطبيعي أن تهتم الحكومة الهندية بمصير مواطنيها الذين وقعوا ضحية الصراع الدائر هناك. وقد ساعدت التغطية الإعلامية الغربية المكثفة لتقدم تلك المليشيات على طمس الحقائق المتعلقة بالموقف الضعيف لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بعد أن أوحت للرأي العام بأن كل القوى المعارضة لحكمه في العراق لا تعدو أن تكون مجرّد ميليشيات طائفية متطرفة. ومع كل هذا، لا يمكن للمالكي أن يتملّص من الأخطاء التي ارتكبها، عندما تبنّى سياساته المذهبية الفجة، التي لم تقتصر على تشجيع مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) على توسيع نفوذهم في المنطقة، بل إنها استدرجت أعداداً كبيرة من سكان الموصل وتكريت والأنبار لإعلان ولائهم لأبي بكر البغدادي، بعد أن عانوا أشد المعاناة من السياسة المنحرفة للمالكي منذ انسحاب الجيش الأميركي من العراق. ويمكن اعتبار أبي بكر البغدادي الثمرة المرّة للفوضى السياسية الداخلية في العراق، ويخطئ من يظن أنه واحد من ألوف المرتزقة الذين تدفقوا على العراق قادمين من بعض البدان العربية، أو أن يكون قد تدرّب على أيدي أعوان تنظيم «القاعدة» الإرهابي في أفغانستان، بل هو عراقي وسليل أسرة تقيم في سامراء. وقد كُتب له أن يتحول إلى شخص معروف في وسائل الإعلام العالمية لأول مرة عندما شرع في قيادة وتوحيد بضع شراذم صغيرة العدد من الفصائل المسلحة المتطرفة التي كانت تعرف باسم «الدولة الإسلامية في العراق»، وكانت تلك الفصائل تعارض الغزو الأميركي الذي وقع عام 2003. ولم يتوقف ليوم واحد عن تقوية وتسليح أتباعه ومؤيديه وتوسيع رقعة نفوذه. وكان الفصل السوري من حريق «الربيع العربي» هو الذي هيّأ الفرصة للبغدادي لتحقيق المزيد من الشهرة، وعندما تمكن من بسط نفوذه على قطع متناثرة من الأراضي السورية، سارع إلى إعادة تسمية تنظيمه ليصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). ولابد من الإشارة هنا إلى أن تجربة البغدادي على الأراضي السورية لم تكن مهمة سهلة على الإطلاق، فقد واجه هناك مقاومة شرسة من تنظيم «جبهة النصرة» المتشدد المعارض لحكم الأسد الذي طلب قائده من أيمن الظواهري التدخل لإجهاض خطة البغدادي التي كانت ترمي لإدماج «جبهة النصرة» في تنظيمه. إلا أن البغدادي رفض اقتراح الظواهري بالتخلي عن العمليات التي تتم في سوريا لـ«جبهة النصرة» وحدها والعودة إلى العراق. وتمكن من دحر قوات «جبهة النصرة» التي كانت تسيطر على الحدود السورية العراقية، وألحق معظم مقاتليها الذين تم أسرهم بتنظيمه، وقد مثّل هذا الحادث المسمار الأخير في نعش العلاقات المتأزّمة بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بقيادة البغدادي وتنظيم «القاعدة». وكانت السهولة الفائقة التي لا يكاد يصدقها عقل لسقوط العديد من المواقع والمدن العراقية في أيدي الفصائل المسلحة، قد مثّلت مفاجأة ربما حتى للبغدادي نفسه. ولم يعد مضطراً لأن يعزو سبب انتصاراته إلى فشل الحكم الشمولي للمالكي الذي كانت حكومته الفاشلة غارقة حتى آذانها في ممارسة سياسات مذهبية بعيدة كل البعد عن الهدف الأساسي الذي يتركز على إعادة بناء الدولة بمشاركة كافة الطوائف والإثنيات التي يتألف منها المجتمع العراقي. وعندما يضع المرء في الحسبان مستوى التدريب التقني العالي للقوات البرية العراقية، فسيصيبه العجب من السرعة الهائلة التي انهار بها الجيش النظامي الذي كان يحكم الموصل بأيدي حفنة من مسلحي المليشيات. ولا يزيد عدد رجال البغدادي الذين يستخدمون الشاحنات الصغيرة عن 800 مسلح، ويقتصر تسليحهم على بعض الرشاشات الخفيفة التي تستخدم أصلاً كمضادات للطائرات. ولكن لم يكن في وسع قوات المالكي ذات المعنويات المنهارة أن تصمد في مواجهتهم، وآثر جنودها الفرار مخلفين وراءهم كمّاً ضخماً من العتاد والمؤن والأسلحة الأميركية الخفيفة والثقيلة. وسرعان ما وقع أهالي الموصل وتكريت في قبضة «داعش» وباتوا يشكلون بيئة حاضنة لها ما جعلها تكتسب من القوة، ما مكّنها من دحر القوات العراقية وطردها من المناطق السُّنية. وفي الحقيقة، يمكن القول إن بعض من أعلنوا عن ولائهم للبغدادي من سكان الأنبار وتكريت والموصل، هم ممن كانوا يشغلون في السابق مناصب عالية كضباط وأساتذة وجنود مسرّحين، وكلهم من ذوي الخبرات العريضة والطويلة في مجالات اختصاصهم، إلا أنهم تعرضوا للتسريح التعسفي من طرف الأميركيين بعد وقت قصير من احتلال العراق، وأصبحوا بلا عمل، وما لبث المالكي أن ضيّق الخناق عليهم عندما تبنى سياسة القبضة المذهبية الثقيلة، وربما بدأوا الآن يستفيدون من فرص العمل في ظل الحكم الجديد للفصائل المسلحة. وبحلول نهاية القرن الماضي، برزت دولة العراق كقوة اقتصادية وعسكرية تثير الكثير من القلق لإسرائيل وحلفائها. وكانت خطة استثارة النزعات المذهبية هناك مطروحة بقوة في كواليس غلاة السياسيين الأميركيين المحافظين المؤيدين لإسرائيل من أجل إضعاف العراق عن طريق تقسيمه إلى ثلاثة كيانات يمكنها أن تخدم مصالح إسرائيل. وعندما تقلّد المالكي السلطة عقب انسحاب القوات الأميركية، تبنى العمل بهذه الخطة عن طريق تحويل الخلافات الداخلية إلى صراع مذهبي. ولا يمكن للفوضى التي تعمّ العراق الآن أن تنتهي إلا بإعادة الاعتبار للمهمشين والمقهورين والمبعدين بتشكيل حكومة وطنية جامعة ومتوازنة تتمثل فيها كل الأحزاب والعشائر والطوائف وبما ينعش آمال كافة المواطنين بمستقبل مشرق.