تنقل هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في كتابها الجديد «الخيارات الصعبة» ‏Hard choices ?القصة ?التالية ?عن ?الرئيس ?الروسي ?فلاديمير ?بوتين?: أثناء الحرب العالمية الثانية كان والد بوتين جندياً في الجيش الروسي. وبعد أسابيع طويلة قضاها في الجبهة، حصل على إجازة تسمح له بالعودة إلى مدينته «لينينغراد»، التي أصبحت الآن تعرف باسمها الأصلي سان بطرسبرغ. وتقول القصة إنه ما إن وصل إلى الشارع‏? ?الذي ?يقع ?فيه ?منزله، ?حتى ?رأى ?شاحنة ?عسكرية ?محملة ?بالجثث ?ومتوقفة ?إلى ?جانب ?الطريق ?الرئيس. ?فقد ?كانت ?قوات ?الحلفاء ?قصفت ?المدينة ?عشوائياً ?مما ?أدى ?إلى ?سقوط ?العشرات ?من ?القتلى ?المدنيين. و?جرى ?تجميع ?الجثث ?في ?الشاحنة ?تمهيداً ?لنقلها ?إلى ?مقبرة ?جماعية ?أعدت ?لهذه ?الغاية ?في ?ضاحية ?المدينة. وقف والد بوتين أمام الجثث المتكدسة في الشاحنة المكشوفة حزيناً ومتاثراً. ولاحظ أن حذاءً في رجل جثة سيدة يشبه حذاءً سبق أن اشتراه لزوجته. فتوجه نحو بيته مسرعاً للاطمئنان على زوجته. غير أنه سرعان ما تراجع عن ذلك، وعاد إلى الشاحنة من جديد ليتفحص جثة صاحبة الحذاء، فإذا بها زوجته! لم يشأ الزوج الحزين أن تدفن زوجته في قبر جماعي، ولذلك طلب سحب جثتها من الشاحنة لنقلها إلى منزله تمهيداً لدفنها بشكل لائق. ولكن خلال عملية النقل تبين له أن زوجته لم تمت، وأنها لا تزال تتنفس ببطء وبصعوبة.. فحملها إلى المستشفى، حيث أجريت لها الإسعافات اللازمة واستعادت حياتها من جديد. ويتابع بوتين رواية القصة فيقول: إنه بعد عامين على هذا الحادث، حملت الزوجة التي كادت تدفن حية.. ووضعت صبياً اسمه فلاديمير بوتين! وهنا تنتهي القصة لتبدأ الأسئلة: ماذا لو أن السلطات العسكرية السوفييتية لم تمنح والد بوتين إجازة للعودة إلى مدينته؟ وماذا لو لم يعد في ذلك اليوم من الجبهة إلى بيته؟ وماذا لو لم يمر في الشارع الذي كانت تتوقف فيه الشاحنة؟ أو حتى لو تأخر قليلاً وتحركت الشاحنة إلى المقبرة الجماعية؟ ماذا لو لم يلاحظ الحذاء في رجل «جثة» تلك السيدة؟ أي تاريخ كان لروسيا اليوم؟ وأي دور كان لها في الشيشان وفي سوريا، في جورجيا وأوكرانيا؟ وأي علاقة كان يمكن أن تقوم بين الكرملين والاتحاد الاوروبي.. والولايات المتحدة؟ وهل إن لقصة ولادة بوتين التي يرويها هو نفسه، أي تأثير على شخصيته وسلوكه وقراراته؟ لقد استطاع بوتين تغيير النظام العالمي الذي قام بعد الحرب الباردة. وقد بدأت عملية التغيير في الشيشان قبل خمسة عشر عاماً من انفجار الأزمة الأوكرانية. ففي عام 1998 تولى بوتين مسؤولية جهاز المخابرات السرية. وتصادف ذلك مع بداية الانتفاضة الأولى في الشيشان التي لا يزيد عدد سكانها على المليون شخص. وعُهد إلى بوتين معالجة الانتفاضة، ولكن خلافاً لنصائح الكرملين باعتماد الدبلوماسية الاستيعابية، لجأ إلى أقصى درجات العنف وحفر خندقاً من الدم بين الروس والشيشانيين الذين كانوا يطالبون بحكم ذاتي في ظل الكرملين. لم يكن هدف بوتين معالجة الأزمة الشيشانية، بل كان هدفه استخدام الأزمة سُلماً للوصول إلى السلطة. ويكشف ذلك كتاب جديد صدر في لندن منذ أسابيع عنوانه «الحرب الدبلوماسية السرية في الشيشان»، للمؤرخ نيقولاس دانيلوف وإلياس احمدوف (صادر عن دار ماكميلان). ويبين الكتاب كيف أن أصلان مسخادوف الذي انتخب في عام 1997 رئيساً لإقليم الشيشان كان يعارض التطرف الديني ويتطلع إلى أن يجعل من الشيشان دولة مدنية ديمقراطية تتمتع بالحرية، وذلك خلافاً للصورة التي كانت المخابرات الروسية بقيادة بوتين تصر على تصويره بها، وهي أنه قائد حركة تمرد تتوسل «الوهابية» عقيدة وهدفاً. ويبين الكتاب أيضاً أن مسخادوف كان يسعى لتحقيق تفاهم سياسي مع الكرملين، وأنه كان يدعو لوقف الاشتباك بأسرع وقت وبأي ثمن من أجل التوصل إلى تسوية سلمية. ولقد وثقت هذه التطلعات بالصوت والصورة في تسجيلات مؤرخة في 18 إبريل 2002. وفي عام 2005 أرسل مسخادوف رسائل رسمية بذلك إلى كل من مبعوث الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا ومجموعة دول موسكو- هلنسكي التي اعتبرت قرار مسخادوف بوقف إطلاق النار من جانب واحد ليس فقط تأكيداً لحسن نواياه بل فرصة تاريخية يجب ألا تفوت. إلا أن بوتين كان دائماً يرفض أي بحث في هذه المبادرات السلمية. وما فعله كان على العكس من ذلك، إذ قتل مسخادوف وعرض جثته نصف العارية في الساحات العامة في مدن الشيشان انتقاماً وترهيباً، مما أثار ردود فعل انتقامية شيشانية عنيفة. فرئيس جهاز المخابرات السرية الروسية لم يكن يريد تسوية لأزمة الشيشان، ولكن كان يريد توظيف الأزمة سياسياً، كما يؤكد الكتاب. فقد شهدت روسيا في تلك الفترة سلسلة من الأعمال الإرهابية ذهب ضحيتها حوالي 300 شخص اتهم الشيشانيون بارتكابها! ولكن الصدفة شاءت أن تكشف عن حقيقة ما جرى، فقد وقع انفجار آخر في مبنى سكني في بلدة «رايزان» الروسية اتهم الشيشانيون كالعادة بارتكابه، ثم تبين أن عناصر من جهاز المخابرات الذي يترأسه بوتين نفسه كانوا وراء الحادث! وينقل كتاب «الحرب الدبلوماسية السرية» في الشيشان نص تسجيل بصوت الرئيس الشيشاني السابق مسخادوف لدى وقوع عملية بيسلان في عام 2005 حيث احتجز عدد من الروس كرهائن، يقول فيه: «إنه في كل مرة نطلق فيها مبادرة للتسوية تقع عملية إرهابية تجهضها». فهل كانت المخابرات الروسية برئاسة بوتين مسؤولة عن ذلك؟ لقد نجح بوتين في أمرين. الأمر الأول هو تصوير الشيشانيين على أنهم إرهابيون يشكلون خطراً على أمن وسلامة ووحدة روسيا. والأمر الثاني هو تصوير نفسه على أنه القائد المخلص لروسيا من الإرهاب الشيشاني (الإسلامي المتطرف) وذلك في الوقت الذي كان فيه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين يعاني من سلسلة من الأزمات القلبية المتلاحقة إلى أن وافته المنية. وهكذا استطاع بوتين أن يشق طريقه إلى الكرملين عبر الشيشان التي دمر بلداتها وقراها على وقائع السيناريو ذاته الذي تعرفه سوريا اليوم أيضاً. إن مراجعة سيرة بوتين في الشيشان تفسر أبعاد موقفه في سوريا، فالمخابرات هي التي تحكم روسيا.. والمخابرات هي التي تحكم سوريا. والمدخل إلى الحكم هنا وهناك واحد، وهو صناعة التطرف الديني ومن ثم محاربته، والهدف واحد هو السلطة والبقاء في السلطة.