في غضون الأسابيع المقبلة سيكون على القادة العراقيين اتخاذ قرارات مصيرية، فإذا لم يتمكنوا من تشكيل حكومة وحدة وطنية يقودها رئيس وزراء جديد يشجع السُّنة المعتدلين وعشائرهم على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف باسم «داعش»، فإن العراق على الأرجح سينتهي إلى التقسيم، كما أنه في حال فشل الحكومة المركزية في تقديم تنازلات للسنة والأكراد، سيندفع الأكراد نحو بسط السيادة على إقليمهم والانفصال، وهنا لابد من التأكيد على أن الأكراد جادون في مسعاهم، ما يعني أن على المجتمع الدولي التأقلم مع الحقائق المستجدة. وفيما يتحمل السياسيون العراقيون جميعاً مسؤولية حل الأزمة الحالية، إلا أن الحصة الأكبر من المسؤولية تقع على عاتق السياسيين الشيعة الذين يهيمنون على الحكومة المركزية، حيث يتعين على الأحزاب الشيعية اختيار رئيس وزراء قادر على اقتسام السلطة، واعتماد نظام لامركزية السلطة، وعدم تسييس القوات المسلحة، أما بالنسبة لإقليم كردستان فهو تريد، كشرط أولي للتعاون مع بغداد والمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، تمكينه من حق تصدير موارده النفطية، وإدماج كركوك والمناطق الأخرى التي دخلته ضمن الإقليم، والتوصل إلى تسوية حول قضايا الموازنة، فضلاً على الحفاظ على استقلاله المالي والإبقاء على قوات البشمركة، بل ومدها بالأسلحة الضرورية لحماية الإقليم من خطر «داعش». وبالطبع لا يمكن القول إن الأكراد يأمنون لبغداد في تحقيق هذه المطالب والموافقة عليها، الأمر الذي دفعهم إلى بدء خطواتهم الموازية استعداداً لإعلان الانفصال. ولعل أهم تلك الخطوات كان خطاب رئيس الإقليم، مسعود البرزاني، أمام البرلمان الكردستاني، الذي طالب فيه بتشكيل هيئة انتخابية تحدد موعداً لإجراء استفتاء حول تقرير المصير والبت في إمكانية الانفصال عن العراق. والحقيقة أن مطالب الأكراد بالاستقلال أو الانفصال مفهومة ومنطقية من وجهة نظرهم، فهم مختلفون عن عرب العراق، كما أن منطقتهم أكثر استقراراً وازدهاراً، وأقل تعصباً وتشدداً. وأكثر من هذا أنه لا يمكن التعويل على بغداد لحماية المنطقة من «داعش»، ولن تتمكن من ذلك في أي وقت قريب، هذا في وقت تحول فيه الإقليم إلى مكان جاذب للاجئين العراقيين الفارين من مناطقهم، حيث تضم كردستان حالياً أكثر من مليون عراقي لجؤوا إلى المنطقة طلباً للحماية. وفي موضوع تسليح البشمركة الذي يطالب به الأكراد لا ننسى أنه بعد زحف «داعش» على مناطق عراقية واسعة بات الإقليم يقتسم حدوداً مع مناطق سيطرة التنظيم، تصل إلى 600 ميل، ما يعني أن الأكراد حتى يتمكنوا من الذود عن أراضيهم يتعين عليهم امتلاك السلاح الضروري ونسج علاقات أمنية مع باقي الدول، ولأن بغداد علقت مستحقات إقليم كردستان من الموازنة الاتحادية فلا مفر للإقليم من بيع نفطه لسداد فواتيره. وفيما يتعلق بالحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد فقد فشلت طيلة سنوات في التعامل مع السنة والأكراد كشركاء، فبلغت معارضة العديد من السنة للحكومة العراقية درجة دفعتهم إلى التحالف مع تنظيم إرهابي تعتبره «القاعدة» أكثر تشدداً منها، أما مطالبهم فهي تمتيع المناطق السنية بحكم ذاتي وإقرار نظام فيدرالي وإنهاء قانون اجتثاث البعث، فضلاً على إيكال مهمة الحفاظ على الأمن إلى قوات محلية. ومن جهتهم ظل الأكراد جزءاً لا يتجزأ من الدولة العراقية، ولكنهم عانوا على مدار القرن العشرين من قمع وتعسف الحكومات العراقية المتعاقبة، ليصلوا خلال الأسابيع الأخيرة إلى مرحلة إطلاق مبادرات دبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي للترويج لمسعى الانفصال. وفيما تحاول واشنطن التأقلم مع الحقائق الجديدة على أرض الواقع فإنه يتعين عليها تبني استراتيجية من شقين: الاستمرار في دعم قادة العراق لتشكيل حكومة وحدة وطنية، وفي الوقت نفسه الاستعداد لفشل هذه المساعي وانفصال الأكراد. والمشكلة المطروحة أمام تأليف حكومة الوحدة الوطنية أن المالكي لا نية لديه في التنازل عن السلطة، كما يظل العائق الأساسي أمام هذا الجهد الرفض الشديد للسنة العرب، والأكراد، وحتى بعض الأحزاب الشيعية للتمديد لحكم المالكي. هذا في وقت أظهر فيه المرجع الشيعي السيستاني، تفضيله للتغيير. ولأني عملت عن قرب مع المالكي عندما كنت سفير أميركا لدى العراق فإني أعرف جيداً أنه سيقاوم بعناد كل محاولات استبداله، وأنه حتى لو وافق على التنحي فإنه سيبحث عن ضمانات بأن يكون خلفه ضمن الدائرة الضيقة والموثوقة لأتباعه، وربما يصر على تولي منصب آخر في الحكومة. ولكن في غياب حكومة وحدة وطنية لاشك أن الحرب الأهلية في العراق ستستمر بلا هوادة، وسيتفاقم الصراع والفوضى الطائفية في المناطق السنية، ومعها ستزداد قوة «داعش»، فيما سيعتمد الشيعة أكثر على الميليشيات الطائفية وعلى إيران، وهو المسار الذي يهدد الأمن الأميركي، ما يحتم على الولايات المتحدة الاستمرار في الضغط من أجل حكومة وحدة وطنية والمساعدة المحدودة في محاربة «داعش»، ولكن في الوقت نفسه تعميق العلاقات مع كردستان من خلال إرسال فريق أميركي لتقييم احتياجات الإقليم والتنسيق معه أمنياً لحمايته من «داعش». ولمساعدة الإقليم على سداد فواتيره يتعين على واشنطن التخفيف من شدة معارضتها لبيع النفط مع زيادة الدعم الإنساني لتحمل أعباء اللاجئين. ولذا تنطوي الأسابيع القادمة على قرارات مصيرية بالنسبة للعراق، ففي أحسن السيناريوهات سيبرز على الساحة عراق لا مركزي يعتمد نظاماً فيدرالياً في المناطق ذات الغالبية العربية ترتبط مع كردستان في إطار علاقة كونفيدرالية. أما البديل فهو حرب أهلية بين السنة والشيعة وانفصال كردستان. ومع أنه يتعين على واشنطن عدم التخلي عن جهودها لمساعدة العراق في تشكيل حكومة وحدة وطنية، إلا أنه يتعين عليها أيضاً التفكير ملياً في البدائل الواقعية الأخرى في حال انهار العراق؛ وفي جميع الأحوال سيكون على أميركا تعزيز علاقتها مع كردستان خدمة لمصالحها. السفير الأميركي السابق لدى العراق بين 2005 و2007 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»