أتفق تمام الاتفاق مع المحلل والمنظر الاستراتيجي الأميركي الكبير جوزيف ناي عندما كتب في مجلة «شؤون خارجية» أن أي تقويم نهائي للقوة الأميركية في العقود المقبلة سيظل أمراً غير مؤكد، ومثل هذا التحليل لن تعضده طبعاً تشبيهات الاضمحلال المضللة، ويجب أن يتريث دعاة اضمحلال القوة الأميركية، عندما يتذكرون كم كانت مبالغة بشدة، التقديرات الأميركية للقوة السوفييتية في سبعينيات القرن الماضي، وللقوة اليابانية في ثمانينياته. وبالقدر نفسه اتسمت بالتضليل أفكار دعاة القطبية الأحادية، الذين كانوا يجادلون منذ عقد مضى، بأن لدى الولايات المتحدة من القوة ما يمكنها من التصرف كما تشاء، وبأن الآخرين لا خيار لديهم غير اتباعها. واليوم يتنبأ بعض الناس بثقة أن القرن الحادي والعشرين سيشهد حلول الصين محل الولايات المتحدة بصفتها الدولة القائدة للعالم، بينما يجادل آخرون بثقة مماثلة بأن القرن الحادي والعشرين سيكون أيضاً قرناً أميركياً... بيد أن الأحداث غير المتوقعة غالباً ما تدحض مثل هذه التوقعات، ودائماً ما تكون هناك مجموعة من السيناريوهات المستقبلية المحتملة لا سيناريو واحداً فقط. والقوة كما عرّفها جوزيف ناي هي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء. وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات؛ فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وسبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربّحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها من سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم التفوق فيه بثورة جديدة في تكنولوجيا المعلومات والعولمة. كما أن القوة في يومنا هذا، موزعة أيضاً بنمط يشبه لعبة شطرنج معقدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى رقعة الشطرنج العليا، نجد القوة العسكرية أحادية القطب إلى حد كبير، ومن المحتمل أن تحتفظ الولايات المتحدة بتفوقها، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فقد ظلت القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد، واللاعبون الرئيسيون هم بالخصوص الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة أيضاً في التزايد. وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافاً وفاعلين ليسوا دولاً، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونياً، والإرهابيين الذين يتاجرون في الأسلحة، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ. وعلى هذه الرقعة السفلى، نجد القوة منتشرة على نطاق واسع، ومن غير المعقول أن نتحدث معها عن الأحادية القطبية أو تعدد القطبية أو السيطرة. والصينيون والأميركيون يفهمون هذا الكلام جيداً، وهو ما برز في الحوار الاستراتيجي الصيني الأميركي السادس الذي عقد الأسبوع الماضي حيث تحيي الدولتان هذا العام مرور خمسة وثلاثين عاماً على إقامة العلاقات الرسمية بينهما. وقد حاول كيري الذي رأس وفد واشنطن مع وزير الخزينة «جاك لو»، تهدئة مخاوف الصين بأن «الولايات المتحدة لا تسعى لاحتواء الصين». ولكن في كل مرة يؤكد كيري أن على الصين تفعيل مجموعة العمل حول الأمن المعلوماتي بهدف وضع قوانين لاستخدام وحماية الإنترنت. والمجموعة الجديدة التي التقت مرتين فقط، ألغتها بكين بعد أن اتهمت الولايات المتحدة خمسة ضباط من الجيش الصيني بقرصنة معلومات لشركات أميركية، وهو ما يفقد الاقتصاد الأميركي سنوياً المليارات من الدولارات، دون نسيان آثار الاطلاع السري على براءات الاختراع وخبايا الاقتصاد والتواجد المالي الأميركي في العالم، وهي اتهامات تنفيها طبعا الصين وتصفها بـ«المفبركة عمداً». (انظر مقالتنا هنا في جريدة «الاتحاد» بتاريخ 3 يونيو 2014). ولا تريد الولايات المتحدة الأميركية، أن تترك الصين في عالم معولم، تؤثر على رقعة الشطرنج السفلى بتهديد الأمن الإلكتروني الأميركي ومن خلاله الأمن الاقتصادي والمالي وما يتبعه من تداعيات سلبية على التنافسية والتواجد في العالم. كما لا تريدها أيضاً أن تؤثر على التحالفات الاستراتيجية التي بنتها أميركا في مناطق جغرافية من العالم ومع دول لها وزن كبير كاليابان... وسواء اتفقنا أو لم نتفق مع القائلين بإمكانية اضمحلال القوة الأميركية مقارنة مع الصين في العقود المقبلة، فإن الإدارة الأميركية مقتنعة بالتصورين المتكاملين الذين يطرحهما الخبير الاستراتيجي لورانس فريدمان والأكاديمية «آن ماري سلوتر»؛ فالأول وهو يعيد النظر إلى التاريخ، يرى أن للولايات المتحدة طابعين يميزانها عن القوى العظمى التي كانت لها السيطرة في القرون الماضية وهما: استناد القوة الأميركية إلى التحالفات لا إلى المستعمرات، وارتباطها بأيديولوجية تتسم بالمرونة.... فهذان الأمران يمثلان معاً جوهر العلاقات والقيم التي يمكن أن تعود إليها أميركا... أما «سلوتر» فتقول إن ثقافة الانفتاح والابتكار في الولايات المتحدة ستمكنها من المحافظة على مكانتها المركزية في عالم تكمل فيه الشبكات القوة الهرمية، إن لم تحل محلها تماماً... وبالرجوع إلى هذه القوة التكنولوجية والبحثية والعلمية للولايات المتحدة، التي عليها مستقبل القوة الحقيقية، نجد أنها في موقع الصدارة عالمياً، من حيث الاستثمار في مجال البحوث والتطوير، بحجم إنفاق يبلغ 369 مليار دولار، وتليها آسيا برمتها بحجم يبلغ 338 مليار دولار، ثم الاتحاد الأوروبي بحجم يبلغ 263 مليار دولار. وتنفق الولايات المتحدة سنوياً 2,7 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي على البحوث والتطوير، أي ما يقارب ضعفي ما تنفقه الصين. وفي عام 2007 مثلاً، سجل المخترعون الأميركيون، نحو 80 ألف براءة اختراع في الولايات المتحدة؛ أي أكثر من براءات اختراع بقية دول العالم الأخرى مجتمعة.... وإذن بالنسبة لأميركا، فالانفتاح والابتكار والتحالفات التي تنشئها تعتبر خطوطاً حمراء لا يجوز خرقها من قبل أي دولة كالصين أو غيرها للتربع على هرم شطرنج القوة في العالم.