تدير إيران الحربين في العراق وسوريا، وتقيم تفاهمات مباشرة بشأن البلدين مع تركيا التي تدير الحربين من الجانب المناوئ، وتفاهمات غير مباشرة مع إسرائيل التي تشارك في «الإدارة» تارةً علناً وطوراً سرّاً... ولكي يكتمل مشهد التصدّع في الشرق الأوسط العربي، ها هي إسرائيل تشنّ حرباً ثالثة على غزّة، فلا تلقى من إيران الهاجسة بمفاوضاتها النووية سوى التحذير من «كارثة إنسانية» (لا تراها في سوريا ولا في العراق)، فيما ينأى «حزب الله» بنفسه عن أي صاروخ ينطلق من لبنان ضد إسرائيل، أما تركيا فتلوّح ضدّها بوقف عملية تطبيع العلاقات التي توسّط فيها الرئيس الأميركي شخصياً (مارس 2013) ولكنها لا تزال متعثرة... هكذا، وتحت رقابة الولايات المتحدة وروسيا، تمضي القوى الإقليمية الثلاث في التدافع والتغالب والتواطؤ لحجز حصصها من النفوذ وتقاسم الهيمنة على بقعة عربية ملتهبة، آملة في التمدد عربياً إلى أبعد فأبعد. كانت الحرب العدوانية الأولى على غزّة (2008 - 2009) زادت الشرخ في عالم عربي منقسم بين معسكري «الاعتدال» و«الممانعة»، واستغرق إنهاؤها ثلاثة أسابيع من التقتيل والتدمير بعدما ارتكبت إسرائيل كل أنواع جرائم الحرب واستحقّت إدانة «تقرير غولدستون»، الذي ما لبث أن دُفن في أعمق أعماق الضمير العالمي. ولكن العدوان الثاني (2012) حاول إظهار «محاسن» وصول رئيس «إخواني» إلى السلطة في مصر؛ ولذا طلب أوباما من هيلاري كلينتون أن تقطع مرافقتها النادرة له في زيارة خارجية (جولة آسيوية) لتطير إلى إسرائيل فمصر وتنجز خلال أربع وعشرين ساعة «اتفاق تهدئة» غير مسبوق بمضمونه، ولكن بعدما كانت إسرائيل أجهزت على معظم ترسانة حركة «حماس»، التي سارعت إيران لاحقاً إلى تعويضها. أما العدوان الثالث الحالي (2014) فسعت إليه إسرائيل، أولاً لأنها احتاجت إلى جرعة وحشية إجرامية تخمد بها هياج المتطرفين داخل الحكومة وفي صفوف المستوطنين المتعطّشين للدم. وثانياً لأن توجيه ضربة قوية لـ«حماس» يلبي رغبة لدى بعض الإقليم، ولكنه يشكّل خصوصاً رسالة إلى إيران مفادها أن التقاطع الموضوعي معها في سوريا لا ينطبق على غزّة. وثالثاً لأن إسرائيل راكمت الكثير من الانزعاجات من تحركات السلطة الفلسطينية دولياً وكانت مصالحة «فتح» و«حماس» ذروتها ولذا أرادت تقويضها بأي شكل، سواء باستغلال خطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، أو بالذهاب إلى حرب على غزّة متذرّعة بالصواريخ التي تطلق على مناطقها. بدت «حماس» متوقعة ومستعدة لحرب جديدة، والفصائل الأخرى متجاوبة، ربما لأنها استشعرت قبل المصالحة أن وضعها الإقليمي (خروجها من سوريا، قطيعتها مع مصر، تراجع أولويتها عند إيران...) أضعفها بل ساهم في تهميشها، وربما لأنها خسرت بعد المصالحة وضعيتها كـ«حكومة» آملة في المقابل أن ينعكس الوضع الجديد بتخفيف للحصار إن لم يكن برفعه، وبمعاملة مصرية أقل سلبية بالنسبة إلى فتح معبر رفح. ولكن الوضع المعيشي ساء في غزة خلال الشهرين الماضيين خصوصاً بسبب عدم دفع الرواتب للموظفين، وقد ربطته «حماس» بضغوط أميركية وإسرائيلية على السلطة الفلسطينية. ومن هنا، فإن قتل المستوطنين الثلاثة بعد خطفهم، وإن لم تعلن «حماس» مسؤوليتها عنه، شكّل الشرارة التي انتظرتها إسرائيل لاستدراج تفهّم دولي لأي عمل عسكري تقدم عليه. وعلى رغم حصول تعاطف معها، إلا أن ظروف الجوار الإقليمي لا تشجّع الدول الكبرى على تغطية حرب كالتي اعتزمتها إسرائيل. ولعل «حماس» أملت بأن يؤدي تصدّرها المشهد الفلسطيني مجدّداً إلى التفاوض معها والتعامل مع شروطها لوقف النار، إلا أنها احتاطت منذ اليوم الأول للحملة الإسرائيلية بإعلان استعدادها لالتزام اتفاق الهدنة المبرم بضمان «مصر محمد مرسي» عام 2012. وعلى افتراض أن الأطراف الإقليمية والدولية تتشارك ضمناً السعي إلى إضعاف «حماس»، فإنها تتشارك أيضاً الاستياء من تطرف الحكومة الإسرائيلية. وفيما يصعب إضعاف حركة مقاومة منبثقة من المجتمع وليست دخيلة عليه، فإن الأطراف الدولية لا تبدو متفقة على المؤدّى من هذا الهدف أو واثقة بقدرتها على استثماره لمصلحة «الطرف المعتدل» (السلطة الفلسطينية) أو في تحريك المفاوضات وصولاً إلى تسوية سلمية. والواقع أن أي مقتلة جديدة في غزّة لن تفيد سوى إسرائيل وأطروحاتها التخريبية، بل من شأنها إعادة تكريس «حماس» كمعبّر عن تطلعات شعب فلسطيني يائس من عجز دولي مزدوج سواء عن حمايته من جنون التطرف الإسرائيلي، أو عن تحريك المفاوضات وصولاً إلى تسوية عادلة. والأخطر أن الأطراف الدولية لا تتعلّم من التجارب، فحال غزّة بما فيها من ضغوط وحصار وإغلاق المعابر والأنفاق، ومن حروب تخلّف دماراً كبيراً، هي في أقل تقدير تحفيز على التطرف والإرهاب في منطقة ملتهبة أصلاً.