يخرج المراقب، بسهولة، من محاضرة «دور التكنولوجيا في دعم الإعلام» التي دشن بها «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية» موسمه الثقافي الرمضاني الأسبوع الماضي، بأن قطاع «الإعلام» في العالم سيبقى قضية مجتمعية بحد ذاتها، ومع كل لقاء إعلامي أو ثقافي تفرض نفسها، وبالتالي لن تكون وسيلة مساعدة على إيجاد مخارج وحلول لقضايا تواجه المجتمع. بكلمات أخرى، نحتاج إلى إصلاح الإعلام قبل أن يقوم بدوره التوعوي في المجتمع. كما يمكن الخروج أيضاً، بتفاصيل عن أن الإعلام التقني أو الحديث أصبح اليوم معادلة صعبة في مجتمعات العالم، وخاصة في المجتمعات العربية، وذلك نتيجة لحجم تأثيره السلبي في المتلقي العربي وما يمثله من تحدٍّ للمجتمعات بسبب عدم وجود ضوابط قانونية ولوائح تحدد المسؤولية الإعلامية لمن يستسهلون تناقل المعلومة دون التأكد من صحتها؛ أي أنه ينبغي التعامل مع هذا الإعلام على أنه موجود في الساحة بأقوى من الإعلام التقليدي، وبالتالي ينبغي التفكير في طريقة لتقليل حجم سلبياته، والعمل على الاستفادة منه بشكل أكبر. إن إشكالية «المصداقية» في الإعلام التقني يدور الحديث حولها منذ وقت، وهذا أمر طبيعي، نتيجة للتأثيرات السلبية التي تركتها الأوضاع السياسية والأمنية التي تعيشها العديد من الدول العربية، خاصة دول «الربيع العربي». والواقع أن هذه الإشكالية ليست جديدة في الإعلام العربي، لكن أهميتها ازدادت هذه الأيام، بعدما صارت هذه المواقع أكثر مصداقية من الإعلام التقليدي. وعلى سبيل المثال، يلجأ الخليجيون إلى هذه المواقع لقراءة خط سير العلاقات بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ويشعرون بأن ما تنقله هذه المواقع أكثر شفافية مما تنقله وسائل الإعلام التقليدية. ومن جانب آخر، تزداد مشكلة المصداقية في ظل وجود عاملين مهمين: العامل الأول، سهولة تناقل الخبر والبساطة التي تنتشر بها المعلومة بين المتلقين. والعامل الثاني، أن هذه المواقع الناقلة للخبر، والمتهمة بعدم المصداقية، يغرد فيها بعض رؤساء تحرير الصحف الخليجية، في إشارة واضحة إلى اقتناعهم بأنها أكثر حرية من الصحف التي يرأسونها. ولست أدري إذا ما كان ذلك يُعدّ أحد الجوانب السلبية للتكنولوجيا ودعمها للإعلام أم أنه أحد إيجابياتها. دائماً ما كان الرهان على الإعلام التقليدي بأن يعيد تنظيم الفوضى الإعلامية في العالم العربي، سواء «الفتاوى الطائرة» أو التحريض بين الدول أو التسفيه المتبادل بين الشعوب، لكن المؤشرات على الأرض تقول إن أكثر المستفيدين من دعم التكنولوجيا للإعلام هي الجماعات الإرهابية التي استخدمت هذه التكنولوجيا في إغراء الشباب العربي بالانضمام إليها، وكذلك الخارجون على القانون الذين يحرضون الشعوب، وبالتالي فقدَ هذا الإعلام دوره في أن يكون «ضابطاً إعلامياً» لحماية المجتمع. والمشكلة أنه في الصراع على كسب المتابع، فإن بعض العاملين في الإعلام التقليدي انجروا إلى ما تطرحه وسائل التواصل الاجتماعي، بل هناك برامج بعينها تقوم بدور المحرض في الإعلام التقليدي -بعضها حكومي أو شبه حكومي- وتُقسِّم المجتمعات طائفياً. هذا الرهان كان مربوطاً باستغلال الإعلام التقليدي لهوامش الحريات وبحرفية موظفيه، كما أن هذا الرهان ارتبط أيضاً بتطوير مُنتَجه، لكنه -للأسف- لم يستطع ذلك، ووجد نفسه يحاول التسابق مع ما يطرحه بعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي. هنا ضاعت المصداقية الإعلامية للمرة الثانية، وتراجعت طموحات المواطن العربي في ضبط حالة الفوضى الإعلامية. يمكن تلخيص ما وفرته التكنولوجيا من مساحات في دعم الإعلام بأنها ساهمت في خلق حروب إعلامية كبيرة بين مواطني الدول العربية، وأحياناً بين مواطني الدولة الواحدة، والعراق أفضل مثال حالياً. ويعني ذلك وجود حاجة إلى توعية الرأي العام بمخاطر هذه الوسائل من خلال فتح نقاشات جماهيرية، وإلى أنه توجِد لوسائل الإعلام التقليدية أرضية مشتركة مع المتابعين حول تفنيد كل ما ينشر، «وإلا سنخسر المعركة»، كما تم طرحه في المحاضرة المذكورة. من المهم جداً الاستعداد لمواجهة هذا النوع من الإعلام، ليس بمسايرة من يهبطون بالحوار إلى مستويات دنيا -ومنهم للأسف من يرأس مؤسسات إعلامية تقليدية- ولكن من خلال تحصين المجتمع، وليس الحكومات، من إفرازات المعلومات غير الدقيقة، على اعتبار أن من بين مستغلي ما وفرته التكنولوجيا مؤسسات دولية ورجال دين، يخترقون المجتمعات لأنها «الخاصرة اللينة» في الدول. لذا فإن الإعلام بشكل عام، والتقني منه بالأخص، ساحة لـ«حرب فكرية» استطاع كثيرون فرضها علينا، ونجح هؤلاء في بعض الحالات، مثلما حدث في دول «الربيع العربي»، كما يحاولون بقوة تحقيق الأهداف نفسها في دول مثل البحرين ومصر التي يهددون الآن أمنها واستقرارها. وما يزيد من التحديات أمام القائمين على الإعلام التقليدي خاصة، باعتباره الجهة الأكثر رصانة، أن التكنولوجيا أزاحت الحواجز الحدودية، كما لم تعد المسافات الجغرافية تحدها في التأثير على الناس. تشير الخبرة التاريخية التي مرت بها الدول العربية خلال ما يسمى بـ«الربيع العربي»، إلى أن من يجيد مهارة استخدام الإعلام المدعوم تكنولوجياً باستطاعته أن يحقق انتصاراً. وما أظهرته الجماعات التي تستخدم الإعلام الجديد من نجاحات في استخدامه كانت نتائجها في غير صالح المجتمعات، بل سببت أزمات سياسية بين الدول، وربما تكون المشكلة الأكبر فيما يمكن أن يقود إليه استخدام الإعلام الجديد من زعزعة لقيم المجتمعات، وهو الخطر الأهم، لأن المنتج ليس عليه رقيب. وحتى إن تواجد «الرقيب الإلكتروني»، فإن نجاحه في الحفاظ على «القيم» المجتمعية مشكوك فيه، وهو ما يثير القلق ويدعو إلى تناول مثل هذه الموضوعات بشكل مستمر. مايزال الدعم التكنولوجي للإعلام متركزاً في الجانب السلبي منه، على الأقل في ناحية الحفاظ على استقرار المجتمع، وهو ناجح جداً من الناحية التجارية والتسويقية، وهذا الأمر يفرض إعادة طرح الموضوع مرات عديدة، مع أن «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية» كان قد طرحه في عام 2005. والنتائج على الأرض العربية، تشير إلى أننا سنحتاج إلى العمل كثيراً لتكييفها لمصلحة خدمة مجتمعاتنا، لأن تأثير الإعلام التقني يتعلق «بالقيم» والعلاقات الإنسانية وهو الجانب الأخطر.