في بداية العام الجاري، مُنح بنك «أبوظبي الوطني» صفة صانع السوق في بورصتي الإمارات، حيث اعتبر ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح وبداية جيدة لاستقرار أسواق المال المحلية التي عانت في العقد الماضي من عمليات مضاربة محمومة كبدت الكثير من المستثمرين، وبالأخص الصغار منهم خسائر كبيرة. في حينها أشرنا إلى أنه رغم أهمية هذه الخطوة، فإنها غير كافية لمنع التقلبات الحادة لأسهم بعض الشركات المدرجة، خصوصاً تلك التي تدرج ضمن أسهم المضاربة، وإن عملية الاستقرار تتطلب وجود أكثر من صانع سوق مؤهل، وأشرنا إلى البنوك والشركات المؤهلة للقيام بهذا الدور، إلى جانب بنك أبوظبي الوطني الذي يملك قدرات مالية كبيرة، إلا أنها غير قادرة وحدها على وقف الانهيارات السعرية أو الارتفاعات المفاجئة لأسعار الأسهم. ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين يؤكد هذه الحقيقة، إذ انهارت أسعار بعض أسهم الشركات المدرجة لتسجل نسبة انخفاض تجاوزت 70% خلال أيام معدودة، في حين فقد المؤشر 20% تقريباً من أعلى مستوى وصل إليه، حيث جرت أسهم المضاربات بقية الأسهم إلى الانحدار لمستويات جديدة. لقد كانت الدلائل كافة تشير منذ شهر مايو الماضي إلى أن عملية تصحيح ربما تكون قاسية قادمة ليس للأسواق المحلية فحسب، وإنما لأسواق المنطقة بشكل عام، حيث يعتبر ذلك تطوراً طبيعياً وصحياً لمعاودة الارتفاع، إلا أن ما حدث تعدى مسألة التصحيح عندما تدنت أسعار بعض الأسهم من 10 دراهم للسهم تقريباً إلى 3 دراهم مع ارتفاع قيم التداولات، ما يعني أن هناك عمليات بيع ناجمة عن المضاربات والهلع الذي أصاب المستثمرين. في الوقت نفسه، تماسكت وبصورة مذهلة أسهم الشركات ذات الأسس القوية، بما فيها أسهم البنوك القيادية التي حافظت على معدلات عالية، وذلك رغم انخفاضها بنسبة 20 – 25% عن أعلى معدلاتها، والتي بلغتها قبل شهرين تقريباً، ما جنب الأسواق المحلية تكرار سيناريو عام 2008 وعزز الثقة في سوقي الإمارات للأوراق المالية بدليل أن إجمالي الاستثمار الأجنبي كان إيجابياً خلال الشهر الماضي. يشير ذلك بوضوح إلى أن أسواقنا المحلية أضحت أكثر نضجاً منها قبل خمس سنوات، كما أن المستثمرين اصبحوا أكثر وعياً واهتماماً بالأساسيات عند تحليلهم واتخاذ قراراتهم الاستثمارية، إذ ربما أسهم الانضمام إلى الأسواق الناشئة في إضفاء المزيد من الأهمية والنضوج لبورصتي الدولة، وهو ما سيؤدي إلى استقطاب المزيد من رؤوس الأموال المحلية والخارجية في الفترة القادمة. ومع أن شهري يوليو وأغسطس سيشهدان بعض التقلبات، ربما يكون بعضها حاداً بسبب حلول شهر رمضان المبارك وفصل الصيف، إلا أن نتائج الربع الثاني للشركات المدرجة، والتي يتوقع أن تكون جيدة بشكل عام، ستسهم في تقديم دعم إضافي لهذه الشركات ولأسهم البنوك بشكل خاص، إذ من المتوقع أيضاً أن تكون توزيعات الأرباح لهذا العام أفضل منها للعام الماضي 2013. هذه التوقعات الإيجابية بحاجة لإجراءات إضافية من هيئة الأوراق المالية والسلع، وذلك من خلال إضفاء المزيد من الإفصاح والتصريح لصانعي سوق جدد، إلى جانب بنك أبوظبي الوطني، فاليد الواحدة لا تصفق، فاستقرار السوق على المدى الطويل يتطلب وجود صانعي سوق يملكون القدرات المالية اللازمة لعملية الاستقرار والتغيير في نطاقات تعكس قوة أسواق المال والوضع القوي للاقتصاد المحلي. ستؤدي مثل هذه التوجهات إلى ارتباط قوي بين الأوضاع الاقتصادية العامة وتقلبات البورصة، والتي يفترض أن تكون مرآة لهذه الأوضاع الجيدة، حيث يتوقع أن يحقق الاقتصاد المحلي معدلات نمو مرتفعة تبلغ 5% سنوياً تقريباً في السنوات القادمة، مدفوعاً بأسعار النفط المرتفعة وبالنمو السريع للقطاعات غير النفطية، ما سيعزز من أداء ونتائج الشركات، بما فيها الشركات المساهمة، وهو ما يضع الأمور في نصابها الصحيح من حيث العلاقة بين الأداء الاقتصادي العام وأداء أسواق المال في الدولة. د.محمد العسومي