عندما دخلتُ غرفة التلفزيون في منزل العميد المتقاعد أرشد وجدته مستغرقاً في متابعة فيلم نصف وثائقي تعرضه الفضائية الروسية عن الحرب العالمية الثانية. سألته إن كان يعرف الروسية، أجاب لا، واستدرك أنه يفهم كل ما يجري لأنه شاهد الفيلم عام 1974 في المركز الثفافي السوفييتي ببغداد. كان المشهد داخل مخبأ هتلر تحت الأرض، وجندي روسي مكلّف بمد سلك اتصال هاتفي للتفاوض مع الجنرالات الروس حول شروط الاستسلام. ولحظتها أخبر الجنديُ الروسي عسكرياً ألمانياً بحاجته للذهاب للتواليت. سألتُ العميد «ماذا قال الجندي»، أجاب: «أريد أقضي حاجتي»، وقالها العميد بالعامية العراقية المكشوفة. وذاكرة العميد كذاكرة شهرزاد، تستطرد من حكاية لأخرى، فبعد الفيلم الروسي تحدث عن ذهابه إلى «عمو الياس»، وهو بائع سندويتش مشهور في بغداد، وتذكر رذاذ المطر الخفيف، الذي «بعث رائحة التراب الزكية». هذه القدرة الخارقة على استعادة تفاصيل مرّت عليها 40 عاماً تُدعى «الذاكرة الفوتوغرافية»، التي يندر وجودها، ولم يجد العلم تفسيراً لها. وإذا كانت «الجينات» موروث كل إنسان فذاكرة العميد «الفوتوغرافية» مُشَّفرة بجينات العراق، حيث قامت قبل 4500 عام أول معارك في التاريخ مُسجلة في منحوتة محفوظة بمتحف «اللوفر» تصف بالرسوم انتصار ملك «لَجَش» بفضل استخدامه جنوداً مسلحين، وتشكيلات الكتائب العسكرية، وعربات تجرها الحمير الوحشية. وبعدها بنحو قرنين شنّ «سرجون الأكدي» أول حرب لتوحيد مدن العراق، وإقامة أول إمبراطورية في التاريخ. وكالصراعات الحالية التي يؤججها تراكم ريع ثروات النفط، كان تراكم الغلة الزراعية في بلاد ما بين النهرين سبب حروب ألفي عام قبل الميلاد، تعاقبت خلالها الإمبراطوريات «الأكدية»، و«البابلية»، و«الآشورية»، التي خاضت الحروب مع «العيلاميين» و«الكاشيين» و«الفرس» القادمين من إيران الحالية. وفي عام 637 بعد الميلاد وقعت معركة «القادسية»، التي هَزَمت فيها الفرسَ قوةٌ من المسلمين تعدادها 18 ألف مقاتل يقودهم خالد ابن الوليد. وبعد نحو 13 قرناً وقعت «معركة القادسية الثانية» التي دشنت أطول حرب في القرن العشرين. و«بالمدافع تُصنعُ الحرب» حسب نابليون بونابرت، وبالمدافع خاض العميد المدفعي أرشد ثلاثة عقود من حروب العراق المحلية والإقليمية، كُسرت فيها أصابع يده، وضلوعه، وفقد كأي مدفعي طبلة أذنه. وأوشك مرات على الموت بسبب ذاكرته السينمائية التي جعلته مرة يتمشى خارج الخندق ويولع سيجارة، مثل «ريتشارد ويدمارك» في فيلم «جبال مونتزوما»، وتعالى صراخ جنوده «سيدي إنت تحت مرمى العدو»! والعميد أرشد دائرة معارف حية بتاريخ الحروب، وأفلام هوليود، التي كانت المصدر الأساسي الثاني لثقافته، وربما الأول، لأن كثيراً من ثقافته العسكرية مصدره السينما، وهو يحفظ عن ظهر قلب تفاصيل الأفلام الوثائقية والروائية لمعارك الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشاهد بعضها، مثل فيلم «جسر على نهر كواي» 20 مرة. وسجّل الرقم القياسي فيلم «كازابلانكا» الذي شاهده 40 مرة. و«يِرْدِس حيل الما شايفها، والشايفها ما يهواها»، أرجوزة شعبية، أو «هوسة» كما يسميها العراقيون، تذكرُ أنّ من لم يذق الحرب يهتز لها طرباً ومن ذاقها لا يهواها. هذه «الهوسة» رددها آمر أحد ألوية الجيش العراقي التي دخلت إيران، وكان الآمر «يِرْدِس» تعبيراً عن ألمه من إصرار القيادة على مهاجمة مدينة «عبدان» عبر نهر «الكارون»، وليس «السيبة» كما ارتأى أرشد وجميع الضباط. وحدست الذاكرة العسكرية العراقية أنها ستكون أكبر كوارث حرب كارثية مع إيران، ستكلف ملايين القتلى من الجانبين. وحَدَسُ العسكريين المتمرسين سبب مقاومتهم السلبية، أو الفعالة، للاحتلال الأميركي عام 2003. وكمعظم العسكريين العراقيين المخضرمين، ورث العميد أرشد المهنة أباً عن جد. جدُّه لأمه خدم 30 سنة بالجيش العثماني، و30 سنة بالجيش العراقي، ووالده درس العسكرية في إسطنبول، وحارب الإنجليز في صفوف الجيش العثماني، وساهم بعدها بتأسيس الجيش العراقي الوطني، قبيل قيام دولة العراق. وهذه من دروس تاريخ دولة العراق التي أسسها الجيش، وليس العكس. وعندما أعاد الجيش تأسيس العراق عام 1958 كان العميد أرشد من خريجي أول دفعة في «الكلية العسكرية» للجمهورية العراقية. وكان عدد أفراد الدفعة 251 لم يبق منهم سوى 37 عندما أحيلوا إلى التقاعد عند انتهاء الحرب مع إيران عام 1988. ولأن العميد كان «مسلكياً»، أي غير حزبي، فقد قضى معظم سنوات خدمته في جبهات القتال، وشارك في جميع حروب العراق المحلية والإقليمية. وعندما سألته عن «أفضلها»، أجاب: «حرب أكتوبر» التي خاضها على جبهة الجولان. وأوضح «لأنها هادئة»، ولا تقارن معاركها القليلة والقصيرة مع معارك جبال العراق، التي يستمر بعضها 17 ساعة دون توقف، أو مع التمارين العسكرية الجبلية، حيث زحف مرة كالفهد، وكالنمر، وغيرها من فنون الزحف، التي كانت أسماؤها تثير سخرية طلبة الكلية العسكرية، واستخدمها كلها 4 ساعات لبلوغ مرتفع الرابية، دون أن يشعر بأطرافه وأطراف جنوده المدماة. وقسوةُ حروب الجبال تدفع البغالَ، وسيلة النقل الجبلية الوحيدة، إلى الانتحار. وكان العميد يحدس حالة البغل الانتحارية، ويطلب من الجنود رفع حمولته من الأعتدة والمؤونة قبل أن يندفع البغل نحو الهاوية. وإذا كان التاريخ، كما يقول ماركس، «يكرر نفسه مرة على شكل مأساة، ومرة أخرى على شكل ملهاة مأساوية»، فالمأساة هي مطالبة مثقفين عراقيين يساريين في تسعينيات القرن الماضي بحل الجيش العراقي، والملهاة المأساوية دعوتهم اليوم لدعم الجهود الأمنية للدولة. وإذا أردنا معرفة مصدر مأساة العراق الهزلية فسنحتاج إلى معرفة السيرة الذاتية للعسكريين العراقيين الذين قُتلوا، وأعدموا واجتُثوا من الجيش، وبينهم العميد أرشد، الذي اعتُقل بعد انقلاب عام 1963 وأُرسل مع عشرات العسكريين، في «قطار الموت»، ثم أعيد ورفاقه للخدمة، عندما أدرك الحكام آنذاك، ما يدركه حكام اليوم، أي استحالة وجود الدولة بدون جيش حقيقي. «صَفنة الزمال عندما يسمع قرع الطبول». «صَفنة» تعني باللهجة العراقية إطراقة التفكير، والزمال هو الحمار، والفقرة تختتم مقالة منشورة هنا في العام الأول للغزو تحدثتُ فيها عن «حفنة من الجنرالات والسياسيين المحتالين أضاعوا على العراقيين والعرب والمسلمين، وعلى الأميركيين والبريطانيين أيضاً، فرصاً لا تُعوض للصداقة والتعاون الدفاعي والأمني والاقتصادي والنفطي والثقافي». وتساءلتُ: «كيف يمكنهم الآن إعادة بناء جيش قتلوا منه عشرات الألوف، ودَمَّروا أمن وسيادة بلده، وحرموا شعبه من فرص التمتع بثرواته الوطنية، وأتلفوا ونهبوا كنوز مكتباته ومتاحفه، وانتهكوا حرمة منازل أهله ودور عبادتهم»؟ عشر سنوات مرّت على نشر المقالة تغيّر خلالها البلد والمنطقة، والعالم، لكن شيئاً واحداً لم يتغير قاله عنوان المقالة الساخرة: «الجيش العراقي مطلوب بأقصى سرعة وكيفما كان»! *مستشار في العلوم والتكنولوجيا