بدأنا سلسلة من المقالات التي تحاول استكشاف الملامح الأساسية للشخصية القومية، بدأت بمقالنا «تحولات الشخصية المصرية» نشر في 23 أبريل 2014. واستكمالاً لبحثنا ناقشنا في مقالنا الماضي «الديموقراطية والبحث عن الشخصية المتكاملة» (نشرت في 25 يونيو 2014) المرحلة التي أعقبت الانقلاب الشعبي الذي قامت به الجماهير ضد الحكم الإخواني الديكتاتوري في 30 يونيو، باعتبارها تؤسس لإقامة ديموقراطية أصيلة في مصر، خصوصاً بعد تنفيذ الاستحقاق الثاني من استحقاقات خارطة الطريق وهو انتخاب وتنصيب «السيسي» رئيساً للجمهورية. وحديثنا عن السعي لتأسيس الشخصية المصرية المتكاملة يحمل في طياته اعترافاً صريحاً بأن الوضع الراهن للشخصية المصرية يتمثل في كون ملامحها الرئيسية تتسم بالتناقض الصارخ، وأن الطابع الأساسي لها هو غلبة الملامح السلبية، على الملامح الإيجابية، والصراع الحاد في القيم الذي أدى في النهاية إلى التردي العام في الأداء الاجتماعي على كل المستويات. وقد أشرنا من قبل إلى عدد من الإشكاليات التي تستدعي المواجهة الصريحة، وأهمها ضرورة التأليف بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والصراع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، والمطالبة المتزايدة بالحقوق دون أداء الحد الأقصى من الواجبات، وتشرذم النخب السياسية، وغياب قيم إنكار الذات وأخلاقيات العمل في فريق. والواقع أن هذه الإشكاليات المستحكمة يقع عبء مواجهتها بحلول فعالة على النخب السياسية والثقافية من جانب، وعلى الجماهير العريضة بكل تنوعاتها من جانب آخر. وحين تأملت مفهوم «الشخصية المتكاملة» الذي صغته باعتباره الهدف الأسمى الذي ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه في المستقبل القريب، أدركت أنني أشير في الواقع إلى شرط ضروري لقيامها وهو ضرورة إقامة التوازن الدقيق بين مختلف مفردات الشخصية القومية. ولنأخذ على سبيل المثال إشكالية الصراع بين المطالب المادية والمطالب الروحية التي تسعى الجماهير لإشباعها. هذا الموضوع - على أهميته - لم يلق الاهتمام الكافي من قبل النخب السياسية التي تشارك بصورة أو بأخرى في إدارة البلاد، ولا النخب الثقافية المسؤولة عن التنوير وعن رفع مستوى الوعي الفكري للجماهير العريضة. ولهذه الإشكالية جذور تاريخية قديمة تتعلق بالمشكلة الرئيسية التي صاغها مفكرو النهضة العربية الأوائل، وهي كيف يمكن أن نقضي على التخلف ونحقق التقدم الذي أحرزته الشعوب الغربية؟ لو تأملنا التاريخ الفكري العربي لعرفنا أن هناك استجابات ثلاثاً رئيسية صيغت لمواجهة المشكلة، سبق للمفكر المغربي المعروف «عبد الله العروي» أن صاغها بدقة في كتابه الشهير «الإيديولوجية العربية المعاصرة». وهذه الاستجابات عبر عنها باستخدام مصطلح «الوعي» بصورة مجردة حين تحدث عن وعي «الشيخ» ويقصد به الشيخ «محمد عبده»، ووعي الليبرالي «ويقصد به الدكتور أحمد لطفي السيد باشا»، ووعي داعية التقنية ويقصد به الكاتب «سلامة موسى». المقولة الأساسية لوعي «الشيخ» أنه لا تعارض بين الإسلام والعلم، أو بعبارة أخرى بين الإسلام والحداثة الغربية، ولكي يدلل على ذلك، قام بتأليف كتابه «الإسلام والعلم» الذي قرر فيه أن الإسلام إذا ما قرأت تعاليمه بطريقة عصرية وفي ظل تأويل صحيح للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، يمكن أن يكون نموذجاً حضارياً يحتذى، وبالتالي لا نحتاج إلى تبني النموذج الحضاري الغربي. وعلى عكس وعي «الشيخ» تماماً، فإن وعي «الليبرالي» يقرر بصورة حاسمة ضرورة القطع تماماً مع التراث، وتبني النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة. أما وعي داعية «التقنية»، فدعا أيضاً إلى القطع مع ثقافة المجتمعات الزراعية المتخلقة وتبني التكنولوجيا الغربية. والواقع أن المآل التاريخي لهذه الأنماط الثلاثة من الوعي يكشف - بدرجات متفاوتة - عن الفشل في الاستراتيجيات الثقافية التي قامت على أساسها. وذلك لأن عملية تجديد الفكر الإسلامي التي بدأها محمد عبده تجمدت على يد بعض تلاميذه، ومن أشهرهم الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» الذي كان رجعياً في تفكيره الاجتماعي ومتزمتاً في فكره الديني، وهو أستاذ الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» التي انتشر تفكيرها السياسي المتطرف الذي يهدف إلى هدم الدول المدنية وإقامة دول دينية محلها، تحقيقاً لوهم استرداد الخلافة الإسلامية! ولو تأملنا المشهد الاجتماعي الراهن في مصر لأدركنا أن شيوع الأفكار الدينية المتطرفة وسيادة الاتجاهات المتعصبة إزاء العلمانيين والليبراليين والأقباط، يمكن أن ترد إلى فكر سيد قطب الذي أصبح منذ عام 1950 -تاريخ التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين- المنظر الرئيسي لها بحكم افتقارها إلى أي مشروع فكري. ويمكن القول إنه خرجت من عباءة سيد قطب كل الجماعات الإرهابية الإسلامية مثل جماعة «الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» التي مارست جرائم قتل المصريين والأجانب، وقامت بعديد من الجرائم متسترة وراء تبريرات دينية مشوهة. وفى تقديرنا، أن التيارات السلفية -بالإضافة إلى فكر الإخوان المسلمين وخصوصاً بعد نزولها إلى حلبة السياسة- تعد من أكبر معوقات صياغة شخصية مصرية متكاملة، لأن التطرف الديني والتعصب المذهبي لا يمكن له أن يبني مجتمعاً عصرياً قادراً على إشباع الحاجات المادية والروحية للجماهير. ولو ولينا وجوهنا إلى المآل التاريخي لليبرالية لأدركنا أنها فشلت – خصوصاً في الحقبة الليبرالية في مصر (1923-1952)- في إشباع الحاجات المادية للجماهير بحكم الفجوة الطبقية الكبرى بين الأغنياء والفقراء، وبسبب تحكم كبار الملاك والرأسماليين في العملية السياسية، وتحويلها للديموقراطية كنظام سياسي إلى نظام احتكاري للبكوات والباشوات الذين أرادوا أن يجمعوا بين الثورة والسلطة. ولا يبقى أمامنا إلا الدعوة إلى التصنيع والتكنولوجيا، والتي تمت أساساً في الحقبة الناصرية في ظل إيديولوجية التنمية التي ركزت على الجوانب المادية فقط ولم تعط اهتماماً واضحاً لوضع استراتيجيات ثقافية تكفل إشباع الحاجات الروحية للناس من خلال خطاب ديني وسطي، يقوم على التجديد الحقيقي في الفكر الإسلامي يسهم فيه ليس الأزهر فقط، ولكن كافة المثقفين المستنيرين من كافة الاتجاهات. بعبارة موجزة لا يمكن تحقيق التوازن المطلوب في الشخصية القومية المصرية المتكاملة بغير الالتفات إلى ضرورة التأليف الخلاق بين إشباع المطالب المادية والروحية للجماهير. ومن ناحية أخرى، لابد من الربط الوثيق بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وأخيراً في مجال التصنيع والتكنولوجيا، علينا أن نميز بين «عملية التحديث» ونعني نقل المجتمع من خانة المجتمعات التقليدية إلى فئة المجتمعات العصرية، وعملية «الحداثة» التي تعني في المقام الأول الحداثة السياسية ممثلة في الديموقراطية، والحداثة الفكرية ورمزها البارز أن العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء.