مَن يتابع الحوادث منذ صباح التاسع من أبريل 2003 وحتى لحظات ما حصل بالموصل (الثَّلاثاء 10 /6/ 2014)، يجد آخرها مربوطاً بأولها. فالذين قدِموا مع الأميركيين لا يمتلكون مشروع دولة ولا مواطنة، ولا قفلاً لما فتحوه مِن بوابات انتقام، ويكفي ما اغتيل من ضباط الجيش وطياريه وضح النهار، وتوهموا منذ اللحظة الأولى أنهم أصحاب فضل في التغيير، حتى أخذهم الغرور إلى اعتبار الدولة غنيمةً، ويعتقدون أن جعفر الصادق يرضيه أن اسمه صار عنواناً لبناية مخطوفة من الدولة باسمه، أو إطلاق أسماء المنتصرين على قاعات الجامعات العلمية، أو شركة دجاج ترضي العباس بن علي أنه صار عنواناً لها «الكفيل»! غلبت عليهم الدَّهشة لعجيب ما حدث، فظل الخوف هاجسهم، مع وجود (150) ألف جندي أميركي يحتمون بهم، إلى جانب حدود طولها (1200) كيلو متر، المفروض أنها مؤمنة لهم، وإذا كان هناك مِن تسريب سوري للإرهابيين فكان للتعجيل برحيل الأميركيين، ومِن عجبٍ أن عادت الطائرات السورية تقصف مَن كانت قد دربتهم وأدخلتهم! لم تملك تلك القوى غير ما كانت تتثقف به داخل مسجد وحُسينية، هذه هي مساحة مشروعها حول الدولة. حملت صورة المختار الثقفي (قُتل 67 هـ) رمزاً للثأر، فلما تمكنت رفعته شعاراً «مختار العصر». هذا إذا كان لكل زمان مختاره. لم يتعلم هؤلاء أكثر مِما خلف فيهم خصمهم، لكنهم ليسوا بالقوة التي كانت تحفظ نظامه، وإن جلس على خراب البلاد. مازالوا يعيشون الدَّهشة مما هم عليه، كيف دخلوا الكرادة الحصينة، بعد أن قَلب الأميركيون اسمها إلى «الخضراء»، فصارت منتجعهم الدائم. ما قيمة ثلاث دورات انتخابات، والفوز الساحق، إذا ظل الخراب يسري في مجالات الحياة كافة؟ هل العبرة أن تحصل على شرعية وجودك، وماذا بعدها؟ مع أن الناخب قد جُهز طائفياً وبعدوانية؟ ما قيمة هذا الفوز والناخب مساق بوهم تلك الصلة، وتغييب عقله؟ فشت «بعد خراب البصرة» كنايةً، داخل العراق وخارجه، عن فوات الأوان. تعرضت البصرة إلى ثلاث انتفاضات للزنوج، لم يكونوا طلاب سلطة، ولا حاسبين حساب قانون لتحريرهم مِن الرق، فالزمن لم يحن بعد، إنما للتخفيف من جور أسيادهم، وعادة تكون الاضطرابات مناسبات للتمرد، ففي (71 هـ) كانت المعارك بالبصرة بين الزُّبيريين والمروانيين، حينها انتفض جماعة من الزنج وأحبطت محاولتهم، فالعدد كان قليلا وبلا قيادة. في (75 هـ) وصل الحجاج إلى البصرة فخرج عليه جماعة بقيادة ابن الجارود (قُتل 75 هـ) -جماعته غير جارودية الزيدية- فاستغل الزنج الاضطراب وثاروا، وهذه المرة لهم قائدهم رباح الزِّنجي، عُرف بـ«شير زِنج»، أي أسد الزنوج، وكثر عددهم، ومع ذلك انهزموا وقُتل أسدهم. أما الثورة الثالثة، فحدثت بعد حين (255 هـ)، باستغلال النزاع داخل البصرة بين طائفتي البلالية والسعدية. فأعلنت بقيادة شخص ادعى الانتساب إلى العلويين، وابن أبي الحديد (ت 656 هـ) ينفي ذلك، ويقول: «قدح به الطالبيون» (شرح نهج البلاغة). فباسمهم كانت تُرفع رايات ومازالت، يدعى علي بن محمد (قُتل 270 هـ). كانت أخطر الثورات في الخلافة العباسية، استمرت 15 عاماً، دكت أطراف بغداد، بعد دخولها النُّعمانية، وهيمنت على واسط وأجزاء من ميسان والأهواز. اجتمع الزنج حول مؤملهم بالخلاص بما سيُملكهم من منازل وعبيد، وجعل منهم قادة مثل درمويه الزنجي. ولما توجسوا من نيته تجاههم جلب جماعة من مُلاكهم وجعلهم يجلدونهم أمامه؛ فاطمأنوا إليه. قاد المعارك ضدها ولي العهد الموفق بالله العباسي (ت 278 هـ) وولده المعتضد بالله (ت 289 هـ)، ولخطورتها وصل الإسناد بقيادة لؤلؤ غلام والي مصر. صار صاحب الزنج، مثلما ورد لقبه، يتنبأ، فتنبأ بخراب البصرة: «اجتهدتُ الدُّعاء على أهل البصرة، وابتهلتُ إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبتُ فقيل لي: إنما البصرة خبزةٌ، لك أن تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرَّغيف خربت البصرة» (الطبري، تاريخ الملوك والأُمم). ولشدة الخراب يُنقل عنه أنه نسب خرابها إلى الملائكة التي كانت، مثلما ادعى، تُقاتل معه: «الملائكة تولت خرابها دون أصحابي» (نفسه). أما آثار الخراب فكانت القتل الذِّريع، والمجاعة، وانعدام الماء العذب، بسبب شدة المعارك، حتى أكلوا وشربوا بعد الاختفاء في الآبار، هرباً من الموت، ما لا يُعف عن ذِكره. عقيدة صاحب الزِّنج عقيدة الأزارقة، وهم الأشد عنفاً، يقتل كل من يتعلق بالمخالفين، وكتب على رايته الحمراء الخضراء: «إِن اللَّهَ اشْتَرَى منَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ..». ورفع شعار «ألا لا حكم إلا لله» (المسعودي، مروج الذهب). وهذا شيء عجب كيف يكون حفيداً لزيد بن علي (قُتل 122هـ) ويتمثل بشعار رُفع ضد جده؟! لكن العبرة ليست بهذا، إنما بسلوك الموفق بالله، كيف تعامل؟ ليس بشدة القتال وتهييج الناس، فإلى جانب تنظيم جيشه، تصالح مع من يرمي السلاحَ، ومَن يعود إليه لا يحرمه من حياة لائقة به، ويعيد له ما فقد، ويعامله كأحد أعوانه. فأتاه كبار القادة، ولم ينقلب على أحد أو يؤاخذه بما سلف. بعد إنهاء الثورة بعث الموفق صاحب السُّنن سليمان بن داود السِّجستاني (ت 275هـ) ليفتح الدرس بالبصرة، فتوجه إليها من بغداد، بعد أن قال له: «ليرحل إليك طلبة العلم، فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس، لما جرى عليها من محنة الزنج» (ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق). بطبيعة الحال، نحن نتحدث عن قبل 1200 عام. أقول: عندما يُخرب البناء يعاد تشييده، لكن المشكلَ بخراب النفوس والعقول، وكان قد ساهم به ثلاثي الحروب والحصار والطغيان، فاحتاج إلى مصلحين كفاة لا منتقمين شقاة. فإذا هؤلاء يأتون ويزيدون الخراب خراباً، لأنهم لا يملكون خطة ولا مشروعاً لإعادة إعمار، ومَن يحصر التخطيط لصيانة البقاء في المنصب لا يصلح شيئاً، وسيضيع حتى ما حرص عليه. لا تغشوا أنفسكم، القوة التي تحاربونها ليست «داعشاً»، بل قوة خلقها الاجتثاث المريب والغرور بالطائفية أولا وأخيراً. لم يمسح عنوان «بعد خراب البصرة» أي خراب آخر، بما فيه اجتياح المغول (656هـ)، وتيمورلنك (1393 ميلادية) لبغداد، إلا ما سيؤول إليه أمر العراق، في الظروف الراهنة، ستتحول الكناية إلى «بعد خراب العراق». فالقائد العام غير العارف بالفنون العسكرية، ظهر يقول: الطائرات ستصل وسنحرقها عليهم! متى؟ «بعد خراب العِراق»!