خلصنا في المقال الماضي «تدهور الشخصية الإيجابية» (12 يونيو 2014) إلى أن الشخصية الإيجابية المصرية، التي انطلقت كالمارد من رماد الهزيمة الساحقة في حرب يونيو 1967 لكي تحقق المستحيل وتنجز الانتصار. هذه الشخصية الإيجابية التي أبرزت قدرة القيادة على التخطيط الاستراتيجي المحكم، وجسارة المقاتلين المصريين والدعم غير المحدود من الشعب الذي وقف مسانداً لقواته المسلحة، هذه الشخصية -للأسف الشديد- تدهورت ملامحها البارزة ابتداءً من عصر الانفتاح الفوضوي الذي دشنه الرئيس السادات، وانتهاءً بحكم الرئيس السابق «مبارك»، الذي امتد إلى ثلاثين عاماً كاملة. ويمكن القول، إنه بعد فترة انتظار طالت صمت فيها الشعب انتظاراً لتحقيق الوعود الكاذبة للحكومات المتعاقبة بتحسن قريب للأحوال، هبّت فجأة وعلى غير توقع عاصفة الشخصية الثورية التي نسفت النظام القديم نسفاً، وحولته إلى ركام في أسابيع قليلة. وكما نعرف، فإن الشباب هم الذين -بدعوتهم للتظاهر ضد النظام القديم في 25 يناير 2010- أشعلوا فتيل الاحتجاج، الذي سرعان ما تحول من هبة ثورية محدودة إلى ثورة شعبية عارمة بعد أن نزل ملايين المصريين من الطبقات الاجتماعية كافة، الذين يمثلون مختلف الأجيال لا فرق بين الرجال والنساء والأطفال والرجال وهم يحملون بين جنباتهم طاقة عظمى للغضب والسخط، انفجرت في وجه النظام القديم وأدت خلال أيام قليلة إلى رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي سقط فعلاً بعد ثمانية عشر يوماً من الهبة الجماهيرية في 25 يناير. هذه الثمانية عشر يوماً الأولى التي أعقبت يوم 25 يناير يمكن اعتبارها المرحلة «البطولية» في ثورة 25 يناير؛ لأنها حملت بين تضاعيفها الجسارة الحقيقية للشخصية المصرية بعد أن استعادت روح الشخصية الإيجابية التي برزت في حرب أكتوبر 1973. لم تكن الأسابيع الأولى للثورة المرحلة البطولية فقط، ولكنها تعدت ذلك لكي تقدم نموذجاً رفيعاً للمجتمع الإنساني الذي يحلم به الشعب المصري، الذي يمثل «يوتوبيا» متكاملة يشارك في صنعها المسلمون والأقباط، وتتجلى ملامحها في التآلف الاجتماعي والتعاطف الإنساني. وأجبر الرئيس «مبارك» على التنحي وتسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة. ومنذ هذه اللحظة - وبعد أن غادر شباب الثورة ميدان التحرير وبعدما انصرف الملايين -بدأ التدهور المتسارع في الزخم الثوري، وذلك لأن النشطاء السياسيين سرعان ما ترك بعضهم الميدان إلى غير رجعة، في حين تشرذم المئات منهم وكونوا- عبر أشهر قليلة- أكثر من ثلاثمائة ائتلاف متنافسة تنافساً عقيماً، في حين تكونت أحزاب جديدة بالعشرات في سياق حاولت فيه الأحزاب السياسية التقليدية أن تلحق لاهثة بركب الثورة المندفع. وفي إطار تفاعلات معقدة غاية التعقيد، حدثت مصادمات دامية بين الناشطين السياسيين وقوات الأمن والقوات المسلحة في وقائع شهيرة، أهمها أحداث «محمد محمود» و«ماسبيرو» و«ميدان العباسية». وقد كشفت هذه الصدامات عن أن الناشطين السياسيين بأطيافهم المتصارعة إن كانوا قد نجحوا في إشعال فتيل الثورة، إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في تبني رؤية سياسية متكاملة عن طبيعة النظام الجديد الذين يطمحون إلى تأسيسه، حتى يحقق أهداف الثورة العليا في العيش والحرية والكرامة الإنسانية. ودخلت جماعات شاردة من النشطاء السياسيين -سواء في ذلك أنصار حركة «6 أبريل» أو «الألتراس» أو جماعات أخرى- في معارك عقيمة مع السلطة الانتقالية. وضاعت روح الثورة الحقيقية، وسادت الفوضى العارمة التي غذتها شعارات عدائية لمؤسسات الدولة، وفي مقدمتها القوات المسلحة تحت شعار «يسقط حكم العسكر» أو في مواجهة قوات الأمن التي حاولت المظاهرات الغوغائية مرات عدة اقتحام مقر وزارة الداخلية أو الهجوم الفوضوي على أقسام الشرطة. وفي ظل ضياع الثورة الحقيقية وارتفاع أعلام الفوضى، أدت التطورات السياسية غير المخططة، التي سادتها الصفقات المشبوهة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم استفتاء متعجل عن الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟ وذلك في غيبة مجلس استشاري يضم ممثلي الشعب الحقيقيين، وجاءت نتيجة الاستفتاء بعد دعاية دينية مزيفة بـ«نعم» على الانتخابات أولاً. وهكذا مهد الطريق أمام جماعة الإخوان المسلمين وجماعات السلفيين لكي تحصل على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وسرعان ما انتقلت جماعة «الإخوان» في مخططها للسيطرة الكاملة على المجتمع إلى الانتخابات الرئاسية. وهكذا صعدت جماعة الإخوان المسلمين إلى ذروة الحكم في مصر، وسرعان ما شرعت في تنفيذ مخططها في أخونة الدولة وأسلمة المجتمع. ودار صراع بالغ الحدة والعنف بين مكتب الإرشاد، الذي كان يحكم مصر فعلاً وبين كل القوى السياسية الليبرالية والثورية، واستخدمت الجماعة المظاهرات الغوغائية لإرهاب المحكمة الدستورية العليا، وإرهاب الإعلاميين، وتهديد المثقفين في صراعها للسيطرة على مقدرات الوطن. وقد أثبتت جماعة «الإخوان المسلمين» طوال مدة حكمها القصير للبلاد، الذي لم يزد على عام واحد، إفلاسها الفكري الكامل، وفشلها السياسي المطلق؛ لأنها جماعة بلا مشروع، وتفتقر إلى الكوادر المدربة القادرة على الحكم والإدارة، بالإضافة إلى سياستها في مغالبة كل القوى السياسية على الساحة. وهكذا بعد أن تحولت الشخصية الثورية في المرحلة الانتقالية إلى شخصية فوضوية تمارس أفعال العنف، وتتعامل بإلقاء قنابل المولوتوف، وتدخل في صدامات عنيفة دموية تحولت إلى شخصية مسحوقة بحكم الهيمنة الديكتاتورية «الإخوانية» التي مارست الإرهاب على الشعب نفسه بكل فئاته. إلا أن الشخصية المصرية سرعان ما دبت فيها الروح من جديد، وإذا بحركة «تمرد» تنجح نجاحاً ساحقاً في ضم صفوف الشعب الذي اندفع ليوقع على التوكيلات وتستجيب الملايين في يوم تاريخي هو 30 يونيو للنزول إلى الميادين والشوارع لإسقاط حكم «الإخوان» الديكتاتوري، ونجح الشعب بالفعل في القضاء المبرم على الديكتاتورية «الإخوانية»، وتحرير البلاد من قبضة الرجعية والتعصب والتطرف، بعد أن استجابت القوات المسلحة لنداء الشعب في 30 يونيو بإعلان خارطة الطريق. والآن بعد انتخاب «السيسي» رئيساً للجمهورية وبداية مرحلة جديدة لتأسيس ديموقراطية مصرية أصيلة معبرة فعلاً عن الشعب المصري بكل طوائفه، علينا أن نتساءل: كيف ستسلك الشخصية المصرية سواء في المدى القصير أو في المدى الطويل؟. سنتابع ذلك وفق منهجنا في النقد الاجتماعي المسؤول الذي طبقناه على أحداث الثورة منذ 25 يناير حتى الآن.