هناك سؤال يجب أن يطرحه المصريون الآن ألا وهو: كيف نصنع البديل؟ وكيف نملأ الفراغ السياسي الذي تركه «الإخوان» وأتباعهم خلفهم؟ وما القوى السياسية المدنية المنظمة والقادرة التي بوسعها أن تقنع المصريين بأنها جديرة بحيازة السلطة في الفترة المقبلة؟.. إنها أسئلة اللحظة التي يجب أن نطرحها بلا كلل أو ملل، ويجب ألا تبقى من دون إجابات، في غضون السنوات المقبلة. وابتداء، لا توجد أمة حية متمكنة إلا وتمتلك بدائل عدة في التفكير والتدبير، تجربها كيفما أرادت، وحسب مقتضيات الحاجة، فإن أخفق أحدها، تذهب مباشرة إلى غيره، ساعية ما أمكنها للترقي في المعاش، متنقلة من حسن إلى أحسن، من دون توقف ولا تردد، وسائرة دوماً إلى الأمام في خط مستقيم، متلمسة سُنة الحياة السليمة والصحيحة، التي تقول إن الغد يجب أن يكون أفضل من اليوم، وإن الجيل القادم من الضروري أن يكون أوعى وأسعد من الجيل الحالي، وإن هذا يسلم ذاك الرايةَ في رضا واطمئنان، وإخلاص واضح وجلي للوطن. ومثل هذه الأمة لا تترك طرفاً بعينه يحتكر تقديم البدائل، بل تعطي الفرصة للجميع للمشاركة في صنعها، مهما كان موقعهم من السلطة، أو موقفهم منها، فالكل شركاء في الوطن والمسار والمصير، والمستقبل لن تكون مغارمه على طرف دون آخر، ويجب ألا تصبح مغانمه لصالح جهة على حساب البقية. أما الأمم المريضة أو الهشة، التي تقف على أبواب الفشل وربما الموت المؤقت، فتفتقد إلى إنتاج البدائل، حيث لا تصنع غير الحزب الواحد والرجل الأوحد، ولا تزرع غير الأفكار والرؤى النمطية التي عفا عليها الدهر، وتسمي الركود استقراراً، وقلة الحيلة حكمة، والتمسك بمن شاخ وأفلس خبرة. وهذا الصنف من الأمم لا يمتلك غير مسار واحد، ولذا ترممه حتى لو تعمق الشرخ وصار عصياً على الترميم، وترتقه حتى لو اتسع الخرق على الراتق، وتضيع سنوات عديدة هباء في سبيل الاحتفاظ بهذا المسار المتداعي، لأنها لا تعرف غيره، ولا تألف سواه. وترتضي أن تمضي الحياة يوماً بيوم، فلا أفق ولا أمل، ولا خطة ولا تصور للمستقبل المنظور أو البعيد، مع أن العالم غني بالخيارات والبدائل والمسارات، لاسيما في أوقات الراحة والسلم، والتركيز على التنمية والرفاه والرخاء. ومن أسف فإن القوى السياسية والثورية المصرية تعيش هذه الحال، فلا تمضي إلا في طريق واحد، هو ذلك الذي حددته السلطات. ومن أجل هذا الخيار الذي لم يختبر أحد مدى صوابه أو ملاءمته لواقعنا، تحشد كل الطاقات وتعمل أغلب العقول والنفوس في اتجاه واحد. وحتى لو تمكن أي من هذه القوى السياسية أن يصل إلى السلطة في المستقبل فإنه لن يكون بوسعه، من دون حيازته بديلاً قوياً، أن يخلق نظاماً سياسياً مغايراً لحكم «الإخوان» أو حكم مبارك. وفي ظل البديل الواحد تصبح القوى السياسية والاجتماعية والثورية المختلفة مع النظام الحاكم أو المتفقة معه مجرد حواشٍ على متن غليظ، ومجرد كائنات رخوة لا تصلب ظهرها في وجه السلطة، أو كائنات طفيلية تعيش على الفتات المتاح، وعلى البقايا التي يتركها النظام أو تنحسر عنه أرديتها الثقيلة، التي تغطي كل المجالات العامة، وبذلك تصبح عاجزة عن أن تطرح نفسها بديلاً للنظام، أو تشكل «نظام ظل»، وتصير مغلولة اليد عن إنتاج تصور مختلف، يسعى إلى حشد مناصرين له، ومنافحين عنه، فتأتي ثمار أي كفاح أو نضال من أجل تحسين شروط الحياة، هزيلة وضئيلة وعطنة، أو يكون حصاد الهشيم. وفي ظل البديل الواحد تختار السلطة الإطار الذي يحكم التصرفات والتحركات والقرارات في الداخل والخارج، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويكون على مؤسسات الدولة أن تخضع لهذا الإطار، ويفكر قطاع كبير من الجماعة العلمية والبحثية في الوسائل التي تخدمه، إما بحثاً عن رضا الحكم، أو لتجنب آثار غضبه، أو رضوخاً للأمر الواقع، ويأساً من إصلاحه. وحتى القلة التي تحتفظ باستقلاليتها وتحاول أن تبدع بدائل أخرى، قد لا يجد إبداعها أي صدى، ولا يحظى بأي اهتمام أو رعاية، ولذا تبقى الأفكار البديلة حبيسة الأدمغة والأدراج، وكثير منها يموت في صمت مطبق. ومع البديل الواحد تفتقد الدولة إلى إدارة ناجعة متجددة قادرة على تجنب الكوارث، وإدارة الأزمات، وقبل كل هذا النهوض بالأمة، ودفعها إلى الإمام دفعاً، لتأخذ موقعها اللائق في طابور الأمم. ومع البديل الواحد تتجمد حياتنا وتتوقف، أو تسير سير البطة العرجاء، بينما تسرع البلدان الغنية بالبدائل خطاها، فتتسع الهوة بيننا وبينها، ونصير بتتابع الأيام عالة عليها. إن القوى السياسية والثورية المصرية في حاجة إلى إبداع بدائل لا تنتهي لحل مشكلاتها التي تعقدت في كل مناحي الحياة. وهذا الإبداع يجب ألا يتوقف مهما تعنتت الحكومات أو عمدت إلى وأد الأفكار والأعمال التي لا تأتي على هواها ومصالحها، فتلك السلطة أو هذه ليست باقية إلى الأبد، وليست قدراً محتوماً. ولابد من أن نؤمن بأنه سيأتي في لحظة إلى سُدة الحكم من يدركون أن تجميد البدائل أو وأدها جريمة في حق الأمة ومستقبلها، ولذا من الضروري أن يجد هؤلاء الجادون المخلصون أفكاراً عملية جاهزة، ليستخدموها في مواجهة التخلف، والأخذ بأسباب التقدم والرقي، لنظفر في نهاية المطاف بدولة ومجتمع قوي قادر على الصد والرد، وتحقيق أحلام المواطنين الذين يتحرقون شوقاً إلى الحرية، ويتطلعون إلى حياة مادية أفضل، فتتحقق للأنظمة الشرعية المفقودة، وتمتلك الدولة منعة وحصانة في مواجهة أي عدو أو طرف خارجي طامع. ويجب أن تلتف كل مؤسسات الدولة حول ثلاثة أهداف ومبادئ أساسية يمكن ذكرها على النحو التالي: 1 - الوطنية المصرية الخالصة هي الأرضية التي يجب أن تقف عليها القوى السياسية والاجتماعية كافة، وتنطلق منها في بناء أي رؤى أو تصورات للحاضر والمستقبل. 2 - لا تراجع عن مدنية الحكم وقيام دولة القانون واحترام المواطنة، وتعزيز الوحدة الوطنية وضمان تداول السلطة واستقلال القضاء ماليّاً وإداريّاً وحرية تشكيل الأحزاب السياسية وإيجاد البيئة الاجتماعية الصحية التي تتيح تنافساً طبيعيّاً بين القوى السياسية وصيانة الحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير. 3 - إن الوقت قد حان لتنهمك القوى الاجتماعية كافة في بناء المؤسسات الوسيطة مثل النقابات المهنية والعمالية واتحادات الفلاحين وهيئات المجتمع الأهلي والمدني فهذه الأبنية الاجتماعية هي التي تصون النظام الديمقراطي العادل.