أكد خبر اعتقال الصادق المهدي، رئيس حزب «الأمة»، بواسطة جهاز الأمن والمخابرات، ما كانت تتداوله الدوائر السياسية السودانية حول الانقسامات العميقة داخل بقايا حركة «الإخوان المسلمين» الحاكمة. لقد فتح القمقم وخرج الجني وأصبحت الروايات المتداولة سراً بين الناس تنتشر على الألسنة، بالأرقام والتواريخ. ونسي الناس «الحوار القومي» وصار الفساد سيد الموقف. وسارع «غندور»، نائب رئيس حزب «المؤتمر الوطني» ومستشار الرئيس، وأعلن أن «الشائعات الكاذبة» هي من صُنع المعارضة وهدفها إفشال مؤتمر «الحوار القومي». وفجأة أعلن عن اعتقال المهدي ووجه له الاتهام تحت المادة 50 من قانون الأمن الوطني التي يقع تحت طائلتها «من يهدد الأمن ويدعو للعنف والإساءة للقوات المسلحة وأجهزة الأمن ويعرض سلامة وأمن الوطن للخطر». وخلفية هذا الخبر المبتور أن المهدي دعا في حديث علني الحكومة لحل قوات الدعم السريع واعتقال أفرادها الذين انتهكوا حقوق أهل دارفور وقتلوا المدنيين وارتكبوا جرائم، وطالب السلطة بإجراء محاكمات لمن ارتكبوا هذه الجرائم الشنيعة في حق أهل دارفور، وحذّر من أن استمرار الحرب الظالمة ستكون له نتائج مدمرة للسودان. ونشر حديث المهدي ذلك، ولعل كثيرين لم ينتبهوا له واعتبروه من أحاديثه المتكررة، لكن «جهة ما» في النظام وجدت فيه مبتغاها. وكان حزب «الأمة» برئاسة المهدي قد قبل دعوة الرئيس البشير للحوار الوطني، لعله يكون مخرجاً وطنياً لأزمة السودان. ودعوة المهدي لتسريح قوات الدعم وإيقاف مذابح دارفور هي الدعوة المعلنة من كل قوى المعارضة وبعض الأقسام من «الإخوان المسلمين» الذين انسلخوا من الحركة وأسسوا أحزابهم الإسلامية. لكن ما الجديد الذي دعا الأمن لاعتقال المهدي الآن؟ لقد سبق القول مراراً إن سلطة «الإنقاذ» الحاكمة باسم «الإخوان» وصلت مرحلة التدهور تنظيمياً وفكرياً، لدرجة يمكن معها القول إن للسودان اليوم أكثر من حكومة. أول كلمة قالها الترابي عندما علم باعتقال المهدي: «إنه قرار كارثي»، أي كارثة على السلطة التي تحاول تجميع أطرافها والمحافظة على ما تبقى من تنظيمها الذي أعطاه الترابي أكثر من ستين سنة من عمره. وسرعان ما تداعت ردود الأفعال على اعتقال المهدي؛ فحزب «الأمة» بتياراته المتصارعة اتخذ موقفاً حاسماً وأعلن تعليق الحوار مع «المؤتمر الوطني»، ودعوة أنصاره للتعبئة والاستعداد لمواجهة السلطة سلمياً حتى إسقاطها. و«الحزب الشيوعي» وحزب «المؤتمر السوداني» و«البعث» السوداني و«الحركة الاتحادية» و«الحركة الشعبية السودانية»، وكل منظمات المجتمع المدني والشخصيات الديمقراطية.. توحدت في إدانة واستنكار اعتقال المهدي، الذي قال في بيان صدر عنه من محبسه في سجن كوبر، إن ذلك موقف يجدر بنا الوقوف عنده ليكون بداية جديدة لعملنا الوطني من أجل الديمقراطية والحرية. وقال إنه شخصياً سيظل ثابتاً وواثقاً من موقفه ومبدئه، وإذا كان هناك من يعتقد أن الاعتقال والسجن سيوهن عزيمته أو يحطم إرادته فهو مخطئ. ماذا أراد من أمر باعتقال المهدي من «حكومات الإنقاذ»؟ السلطة تعرف أنها لن تستطيع تقديمه لمحكمة عسكرية باتهام يصل الخيانة العظمى، لأن عام 2014 ليس عام 1989. وإذا كانت راغبة في مواجهة مفتوحة مع الأنصار، فهي تعلم أنها ستجد نفسها في مواجهة كل القوى السياسية والدينية والمدنية قبل مواجهة المجتمع الدولي. لقد فتحت جهة ما في السلطة ملف الفساد، فإذا به يصبح جزءاً من الصراع الداخلي. وكل يوم تأتي «الإنقاذ» بجديد.