منذ تزعمه الكنيسة الكاثوليكية، أبان البابا فرانسيس عن إدراك كبير لوقع وقوة اللفتات العفوية أو غير المتوقعة قصد التأثير على الرأي العام ومنح الأمل لمن يعانون الرفض. فخلال ترؤسه «قداس الخميس المقدس» لأول مرة، على سبيل المثال، قام فرانسيس بغسل وتقبيل أقدام سجناء من بينهم امرأة مسلمة. ورغم أن هذا الأمر صدم بعض التقليديين الكاثوليك، فإنه اعتُبر على نطاق واسع دليلا قوياً على تواضعه وتضامنه. وبعد بضعة أشهر على ذلك، قام فرانسيس بأول زيارة له إلى خارج روما فسافر إلى لامبيدوسا، الجزيرة التي يتقاطر عليها المهاجرون الأفارقة الساعين لدخول أوروبا. وكانت تلك طريقته الخاصة لمواجهة مشاعر العداء المتزايدة للمهاجرين في القارة. وإلى جانب هذه المبادرات المقررة، هناك الخطوات الباباوية المفاجئة -والأكثر حدوثاً- والتي جعلت من «مراقبة فرانسيس» عملا مفيداً ومجزياً. وقد شاهدنا خلال زيارة البابا إلى «الأرض المقدسة» التي دامت ثلاثة أيام كلا من فرانسيس الرسمي البروتوكولي وفرانسيس الارتجالي العفوي؛ وكما هو الحال دائماً، فإن تأثيره كان كبيراً. ومنذ البداية، أكد الفاتيكان أن الهدف من زيارة البابا ديني بالأساس ويتماشى مع دوره كزعيم لأكبر كنيسة مسيحية في العالم؛ وتم التركيز على جهوده لتشجيع توحيد الكنائس المسيحية والحوار بين الأديان، حيث أشير إلى اجتماعاته المقررة مع البطريرك اليوناني بارثولوميو، والتي تحيي الذكرى الخمسين للقاء التاريخي الذي جمع سلفيهما في القدس. كما أشير أيضاً إلى حقيقة أن صديقين أرجنتينيين يرافقان البابا في هذه الزيارة، حاخام وإمام، وأن فرانسيس سيلتقي في القدس مع المفتى الأكبر وكبير حاخامات إسرائيل. غير أنه كانت ثمة مؤشرات واضحة -حتى انطلاقاً من برنامج الزيارة- على أن الزيارة البابوية لن تقتصر على ذلك. فهناك مثلا الإشارة إلى قدومه لـ«دولة فلسطين». وإذا لم تكن تلك الرسالة واضحة بما يكفي، فإن البابا والوفد المرافق له، قام بالرحلة من عمان إلى بيت لحم مباشرة بواسطة طائرة هيلوكبتر، دون الذهاب إلى إسرائيل أولا. وقبيل الزيارة، كانت ثمة تخوفات من حدوث أعمال عنف قد يرتكبها متشددون إسرائيليون مستاؤون من الزيارة البابوية ومن الإذن الذي قدم من أجل السماح لفرانسيس بإحياء قداس ديني في موقع يعتقد المسيحيون أنه مكان «العشاء الأخير للمسيح». وكان ثمة ارتفاع في هذه الأعمال المعادية للعرب، والمعادية للمسيحيين بشكل خاص، خلال الأسابيع التي سبقت قدوم البابا. غير أنه عقب تصريح للبطريرك اللاتيني في القدس ينتقد الرد المتراخي للسلطات الإسرائيلية على هذا التهديد -وهو تخوف عبّر عنه الفاتكان أيضاً- تحرك الإسرائيليون أخيراً لاعتقال عدد من المحرضين على العنف. ثم إنه إذا كان برنامج الزيارة ومسارها قد أوضحا أن فرانسيس سيتنقل داخل بيت لحم في مركبة مفتوحة وسيكون له اتصال مباشر مع الفلسطينيين، فقد تم التأكيد بالمقابل على أن السلطات الإسرائيلية هي التي تتحكم في كل جوانب الزيارة أثناء وجود البابا في إسرائيل. وفي إيجاز قبل الزيارة، استعمل المتحدث باسم الفاتيكان لغة غير دبلوماسية بعض الشيء لوصف هذا الأمر، حيث أشار إلى أن دولة إسرائيل فرضت شروطاً «أساسية» وطلبت «إدخال بروتوكولات وجوانب دبلوماسية جديدة»، وإلى أنه «من المؤسف أن المؤمنين المسيحيين في القدس لن يستطيعوا رؤية البابا بسبب القيود التي تضعها قوات الأمن والتي تحدد متى وأين سيذهب البابا». ورغم قوة هذه الرسائل التي بعثت بها الأنشطة المقررة ضمن الزيارة، فإن الأعمال العفوية التي صدرت عن البابا كانت أكثر قوة. فتوقف فرانسيس غير المقرر من أجل الصلاة لفترة وجيزة عند الجدار الذي يفصل بيت لحم عن القدس مثال قوي في هذا الباب؛ حيث تصدرت صورة البابا وهو مطأطئ رأسه للصلاة عند الجدار، في مكان خطت عليه بوضوح عبارتا «فلسطين حرة» و«بيت لحم تشبه جيتو وارسو»، الصفحات الأولى للجرائد عبر العالم. وهناك أيضاً توقفه غير المقرر في مخيم الدهيشة للاجئين والتعاطف الذي أبان عنه خلال حواراته مع عائلات ممن فقدوا بيوتاً وأراضي في النزاع المستمر مع إسرائيل. وأثناء وجوده في إسرائيل، استمر البابا في إذهال المراقبين من خلال لفتات العطف والأمل؛ حيث أشار إلى الجالية المسلمة التي تجمعت خلال اجتماعه مع المفتي الأكبر بـ«إخواني الأعزاء». وبعد أن ندد بالإرهاب والهولوكست، حيى مجموعة صغيرة من الناجين من الهولوكست عبر إمساك وتقبيل يد كل واحد منهم. وفي رسالة موجهة إلى كل المجموعات الدينية في «الأرض المقدسة»، صلى فرانسيس من أجل «ألا يكون في هذه الأرض المباركة مكان للذين.. يُظهرون عنفاً وعدم تسامح تجاه تقاليد الآخرين». وبعد صورة فرانسيس مطأطئا رأسه من أجل الصلاة عند الجدار، والتي قد تكون أكثر نشاط غير مقرر ضمن البرنامج تداولتها وسائل الإعلام، كانت هناك الدعوة التي وجهها إلى الرئيسين الفلسطيني والإسرائيلي للالتقاء بهما في روما الشهر المقبل. ولئن قال فرانسيس إنه دعا الزعيمين فقط لينضما إليه في منزله من أجل الصلاة، فربما يجدر بالمرء أن يتوقع من فرانسيس ما لا يمكن توقعه. وفي النهاية، وإلى جانب اللفتات والمبادرات التي قام بها البابا من أجل السلام وقدرته على التحدث بإقناع وعطف، هناك مجال آخر تركت فيه زيارته تأثيراً كبيراً. ذلك أن وجوده منح مسيحيي فلسطين الأمل وقوى عزمهم وتصميمهم على البقاء في أرضهم وتأكيد دورهم كشعب فلسطيني موحد. وربما كان ذلك على برنامج البابا وربما لم يكن، إلا أنه قد يكون أكبر مساهمة لهذه الزيارة البابوية.