شرفت بدعوة «المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية» لإدارة حلقة نقاشية عقدها المركز يوم 7 مايو الجاري حول موضوع «الانكشاف المتبادل: تأثيرات الأبعاد الداخلية لقضايا العمالة على العلاقات العربية- العربية»، وربما يحتاج هذا العنوان شرحاً، فهو في شقه الأول يشير إلى أن حركة العمالة العربية داخل الوطن العربي عبر الحدود السياسية القُطرية قد أوجدت حالة من «التواقف» أو الاعتماد المتبادل بين الدول المرسلة والدول المستقبلة للعمالة أطلق عليها «الانكشاف المتبادل» أي أن كلا طرفي العلاقة يحتاجانها، وأما الشق الثاني من العنوان فيعني أن ثمة أبعاداً داخلية استجدت على حركة العمالة ترتبط بما عرف بـ«الربيع العربي» والمطلوب معرفة تأثير هذه الأبعاد على العلاقات العربية- العربية. والواقع أن انتقال الأفراد في الوطن العربي عبر حدودهم السياسية القُطرية ظاهرة قديمة وإن ظلت أرقام الحراك البشري محدودة، كما أن جانباً يعتد به منها كان أقرب إلى المعونة الفنية منه إلى السعي لكسب الرزق. وظل هذا الوضع قائماً بشكل أو بآخر حتى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حين حدثت الطفرة في أسعار النفط وتولدت لدى كبريات الدول العربية المصدرة للنفط عوائد مالية ضخمة كان منطقياً أن تفضي إلى طموحات تنموية واسعة. ولما كانت هذه الدول باستثناء الجزائر تتميز بعدم الكثافة السكانية فقد نشأت حاجة إلى استيراد الأيدي العاملة كان طبيعياً أن تلبي أساساً من المحيط العربي، خاصة أن هذه الدول في ذلك التوقيت كانت تعاني أوضاعا اقتصادية غير ملائمة. وقد أخذت أرقام العمالة العربية في غير دولها الأصلية داخل الوطن العربي تتزايد حتى أوجدت حالة «التواقف» أو الاعتماد المتبادل، فلا الدول المستقبلة للعمالة تستطيع أن تتحمل فجأة عودة كل العمالة العربية إلى دولها، ولا الدول المرسلة تتحمل عودة أبنائها إليها وبحثهم عن عمل. وفي الحالة الأولى ستتعثر خطط التنمية لدى الدول المستقبلة، وفي الحالة الثانية قد تحدث اضطرابات اجتماعية يمكن أن تكون لها تداعيات سياسية. ولهذا صمدت حركة العمالة العربية على النحو السابق في وجه أزمات حقيقية استطاعت اجتيازها وإن بصعوبة في بعض الأحيان كما في أزمة العمالة المصرية في العراق في أعقاب انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية في سنة 1988 حين سُرح جنود عسكريون كثيرون ليجدوا أن المصريين يشغلون وظائفهم مما أدى إلى اضطرابات اجتماعية حادة وصلت إلى حد العنف في بعض الأحيان. كما يلاحظ أن قمة بغداد 1978 التي قررت بعد عقد أنور السادات اتفاقيتي كامب ديفيد مع إسرائيل مقاطعة شاملة للنظام المصري، إن هو مضى في طريقه إلى عقد معاهدة سلام مع إسرائيل، قد استثنت من هذه المقاطعة العمالة المصرية في البلدان العربية. واللافت أنه على رغم أهمية ظاهرة حراك العمالة العربية عبر الحدود القُطرية داخل الوطن العربي فإن أحداً لم تكن لديه تقديرات دقيقة بشأن أرقامها، وعلى سبيل المثال فبينما كانت مصادر رسمية تقدر عدد العمالة المصرية في العراق إبان حربه مع إيران بمليون في حين كانت تقديرات أخرى مصرية وعراقية تذهب إلى أن الرقم الحقيقي لا يمكن أن يقل عن ثلاثة ملايين. وفي ليبيا كانت مصادر مصرية تقدر عدد العمالة المصرية فيها بنصف مليون إلى ستمائة ألف، بينما أشارت تقديرات ليبية إلى أنه لا يمكن أن يقل عن مليون وقد يزيد على ذلك. والغريب أن الأمم المتحدة نفسها تتبنى تقديرات غير دقيقة لما أسمته بـ«الهجرة البينية العربية»، وقد قدرتها في جدولين لعامي 2010 و2013 بحوالي أحد عشر مليوناً، وأحد عشر مليوناً وأربعمائة ألف، على التوالي، علماً بأن الجدولين اللذين يحملان الأرقام التفصيلية لهذه التقديرات قد خلا كل منهما من بيانات مصر والمغرب والسودان(!) كما أنني تأكدت من أن أرقام جدول 2013 قد تضمنت حركة اللاجئين بسبب الأوضاع الداخلية في بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، وشتان بين هذه الحركة وبين السعي إلى الرزق، فاللاجئون إما محشورون في معسكرات إيواء أو ميسورو الحال ينفقون على أنفسهم أو حتى يبادرون بإنشاء مشروعات صغيرة ومتوسطة، وعلى رغم أن وجودهم المكثف في هذا البلد أو ذاك يمكن أن تكون له تداعيات اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية فإن الأمر مختلف جداً عن حركة العمالة. وقد أتى ما يسمى «الربيع العربي» فكانت له تداعياته الواضحة على الدول العربية عامة، ولوحظ أن ما حدث من تغيير في بلدان «الربيع العربي» قد أفضى إلى عدم استقرار واضح تضمن استخداماً واسعاً للعنف بدرجات متفاوتة، وكذلك استطاع التيار الذي يدعي أنه يعبر عن الإسلام أن يصل إلى الحكم وينفرد به تماماً لمدة عام كامل في مصر، وأن يكون له الدور القيادي في تونس، ووجود مؤثر في ليبيا إلى حد تهديد وجود الدولة ذاتها، وله نفس الوجود المؤثر في سوريا (بمعنى المشاركة الواسعة في العمليات العسكرية ضد النظام) فضلاً عن وجوده المؤثر في اليمن. وأخيراً فإن الأوضاع الاقتصادية قد تردت في كافة بلدان «الربيع العربي»، فهل كان لهذا كله أثر على حركة العمالة موضوع هذا المقال؟ يلاحظ أولاً أننا بسبب ورطة الأرقام غير الدقيقة لا نعرف أصلاً هل زادت هذه الحركة أصلاً أم نقصت؟ قد يقول البعض إنها زادت بسبب الأوضاع السياسية الطاردة، ولكن هذا يتعلق بحركة اللجوء وليس حركة العمل، وقد يرى البعض أن تدهور الأوضاع الاقتصادية قد يزيد دافع الانتقال من أجل العمل، غير أن انتقال العمل لا يحدث لمجرد الرغبة فيه، وإنما يحتاج الأمر توفر فرص عمل في الدول المستقبلة. غير أن المؤكد أن وصول قوى التيار الذي يزعم أنه إسلامي إلى الحكم منفرداً أو زيادة تأثيره السياسي في بلدان «الربيع العربي» وتطلعه إلى مد نفوذه خارجها، قد هدد بأن تتسلل السياسة إلى حركة العمل وهذا خطير بالنسبة لمستقبلها، وقد تورط مصريون في التنظيم «الإخواني» في الإمارات، كما بدأ بُعد طائفي يتسلل إلى حركة العمل فبدأت العناصر المتشددة في ليبيا تصفي العمالة المصرية المسيحية بدم بارد عقاباً لشعب مصر وجيشها على الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين». ومن الواضح إذن أن «الربيع العربي» وتطوراته التي لم تستقر حتى الآن يفرض على المهتمين بحركة العمالة العربية داخل الوطن العربي عبر الحدود السياسية الوطنية المبادرة بمناقشات عميقة وإجراء دراسة جادة عن المتغيرات التي استجدت على الوطن العربي وتأثيراتها المحتملة على حركة العمل العربي عبر الحدود السياسية لأقطاره.