كثيراً ما شعرت بالقلق من تواتر الفتاوى التي تصدر على لسان متشددين ينتمون إلى تيارات دينية سياسية في مختلف الدول العربية والإسلامية، حيث تبدو بعض الفتاوى أحياناً خارج نطاق التفكير العقلاني والإدراك المنطقي للأمور. وقد أسهم انتشار وسائل الإعلام التقليدية والجديدة في انتشار هذه النوعية من الفتاوى ورواجها حتى وصل الأمر إلى صدور فتوى تحرم المشاركة في التصويت بانتخابات الرئاسة المصرية! الإشكالية الأساسية في فوضى الفتاوى السائدة في كثير من دول العالم العربي أنها تسيء للقيم الإسلامية السمحة وتزج بالدين زجاً صريحاً في أتون السياسة وتوظفه لمصلحتها. ومن خلال أي متابعة بسيطة لوسائل الإعلام بمختلف أنماطها، يدرك الإنسان حجم «سوق الفتوى» وتوسعها الملحوظ من خلال توزيع الفتاوى الجاهزة على شرائح مختلفة من الجمهور من دون أدنى اعتبار لتأثيرات هذه الفتاوى المجتمعية والقيمية بل والاقتصادية والسياسية أيضاً. ومن يتابع بعض برامج وسائل الإعلام يدرك أيضا حجم السطحية والاهتمام الزائد عن الحد بتفاصيل أمور حياتية تفصيلية حُسمت من قرون، فضلاً عن أن بعض الفتاوى يبدو مسيئاً للمرأة ولا يعبر مطلقاً عن نظرة الإسلام إليها، بل يعكس مفاهيم ذاتية وشخصية لتيارات دينية سياسية بعينها تحاول أن تضع قيوداً على دور المرأة في المجتمع وتقصر هذا الدور على رؤيتها المتشددة التي لا تمت لديننا الحنيف بأي صلة. من نماذج الفتاوى العبثية التي انتشرت في الآونة الأخيرة وعكست عمق التشدد والتطرف لدى شريحة كبيرة من الدعاة المحسوبين على جماعات الإسلام السياسي، الفتوى التي ذكرت أنه لا يجوز للمرأة تصفح الإنترنت أو مشاهدة التلفاز من دون محرم حتى لا تُفتن بما تراه، وفتوى أخرى نصت على عدم جواز زواج عضو جماعة "الإخوان المسلمين" إلا بإحدى عضوات الجماعة، ناهيك عن مئات الفتاوى التي ترتبط تحديداً بالعلاقة بين الرجل والمرأة وتحصر الدين في هذه الجزئية بشكل مسيء للإسلام والمسلمين! وفي ضوء ما سبق، فإن تحرك دار الإفتاء في جمهورية مصر العربية للتصدي لهذه النوعية المتطرفة من الفتاوى جاء إيجابياً وسيؤتي ثماره في المدى القريب، من خلال إنشاء مرصد للفتاوى المحرضة على العنف أو المرتبطة بالتشدد والتكفير. وقد أشار الدكتور شوقي علام، مفتي جمهورية مصر العربية الشقيقة، في تصريحات له نُشرت مؤخراً، أن دار الإفتاء رصدت 150 فتوى في غضون ثلاثة أشهر تدعو إلى العنف والتشدد. وما يؤكد أهمية دور هذا المرصد أنه لم يتوقف عند حد الرصد والتنبيه، بل تقوم لجان علمية متخصصة شكلتها دار الإفتاء المصرية بتفكيك الأفكار التي احتوتها الفتاوى، وتنشر البحوث العلمية التي تُعنى بهذا التفكيك. ربما يحتاج الجهد الذي تبذله دار الإفتاء المصرية في هذا الشأن إلى مزيد من التكثيف كي يحقق الأهداف المرجوة من ورائه على نطاقات جغرافية ونوعية، خصوصاً أن مؤسسة الأزهر الشريف لها مكانتها وتاريخها العريق في تبني الفكر الوسطي ونشر الفهم الصحيح للإسلام، ولعل فكرة رصد الفتاوى المتشددة بحد ذاتها هي فعل إيجابي يصب في مصلحة الإسلام والمسلمين، خصوصاً أنه يأتي بعد عقود من الصمت إزاء انتشار فكر التطرف والتشدد من خلال التنظيمات والجماعات الدينية السياسية. اللافت في هذه الفتاوى الضالة أن بعض الباحثين يربطها بالبيئة والثقافة السائدة في المجتمعات، وهذا تفسير تدحضه الكثير من البراهين والأدلة التي تؤكد أن المسألة لا علاقة لها بالثقافة المجتمعية السائدة بقدر ما تعبر عن فكر التنظيمات والجماعات المتشددة وتعكسه بغض النظر عن الزمان والمكان من حولها؛ وقد نشرت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية المعروفة منذ فترة فتوى لأحد الدعاة في أوروبا ربما تُعدُّ الأغرب من نوعها في التاريخ لجهة عبثية التفكير ورداءة النظرة إلى المرأة ! وإذا كان مرصد الفتاوى يُعتبر خطوة تأخرت كثيراً من حيث التوقيت، فإن من الضروري التوسع فيها وتوحيد منهجها من خلال وضع معايير وسطية محددة تسهم في محاصرة الفتاوى المتشددة. وأعتقد شخصياً أن مثل هذه النوعية من الفتاوى ينبغي أن تُجرَّم قانوناً وأن يقع قائلها تحت طائلة القانون لافتئاته على الدين الإسلامي وإساءته لهذا الدين العظيم. مهمة رصد الفتاوى المتشددة والتكفيرية تبدو صعبة بالنظر إلى الانتشار الهائل للتيارات الدينية ووسائل الإعلام المعبرة عنها والناطقة باسمها، ما يتطلب بدوره مثابرة واستراتيجية بعيدة المدى بعد أن تجاهلت الكثير من الدول ولعقود طويلة خطورة ترك منابر الفتوى لغير أهلها، وانتشرت الفوضى في هذا المجال الحيوي، وارتدى جهلاء ومغرضون وأنصاف متعلمين ثوب «أهل الذكر» ممن قال المولى عز وجل فيهم: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وتجاهل كثيرون أن العلم الفقهي والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية له متطلبات معينة، شأنها شأن أي علم آخر كالطب والهندسة وغيرهما. إن تجفيف منابع الفكر المتطرف واستئصاله يحتاجان إلى جهود كبيرة من الدول كافة، والفتوى هي أحد أخطر تجليات هذا الفكر، حيث تنشئ التيارات والجماعات الدينية السياسية نظاماً دعوياً موازياً لما هو سائد في المجتمع من حولها، تنشر من خلاله أفكارها المسمومة بين أعضائها بالأسس وخارج نطاق العضوية أيضاً، وهنا يوجد أحد مكامن الخطورة في حال عدم توافر منابر وسطية قادرة على بناء قنوات اتصال فاعلة مع الجمهور. ولذا، أعتقد أنه بموازاة دور آلية رصد الفتاوى المتشددة والتكفيرية المنتشرة عبر مختلف وسائل الإعلام أو المنابر الدعوية، لابد من العمل على مسار موازٍ، وبالقدر ذاته من التكثيف والاهتمام، وهو مسار نشر الفكر الوسطي وتدعيم دور الهيئات المختصة بالفتوى وتسهيل التواصل معها والاستماع إلى رأيها ومشورتها على مدار الساعة، وبما يتناسب مع ظروف المجتمعات وخصوصياتها. وأرى أن النموذج السائد في دولة الإمارات العربية المتحدة على صعيد الإفتاء الديني من خلال عمل مؤسسي ممنهج، يُعتبر نموذجاً إيجابياً من حيث الفاعلية التوعوية والمقدرة على التواصل مع الجمهور المستهدف عبر آليات وقنوات شتى، تتماشى مع العصر وتحتفظ للمجتمع بخصوصياته.