اليوم، 25 مايو 2014، يغادر رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان قصر الرئاسة بسبب انتهاء مدته، دون أن يستطيع مجلس النواب اللبناني انتخاب خَلَف له، وذلك للانقسام بين فريقي 8 آذار و14 آذار، وعدم قدرة أي منهما على تأمين النصاب لمرشحه. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت الهيمنة السورية على لبنان تفرض إمّا رئيساً يريده النظام السوري، أو يحصل الفراغ الذي يُرغم على «الطاعة» للرغبة السورية. لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فالصراع ما كان دائماً بين رغبة سورية وإباء لبناني(!)، بل هناك دائماً فريق داخلي لبناني كبير يجد أسباباً وطنية وقومية ومصلحية لدعم الخيار السوري. إنما في المرة الأخيرة أو المرتين، برز أيضاً العاملُ الإيراني عبر «حزب الله». وقد ظهر ذلك للمرة الأولى في إرادة التمديد للرئيس أميل لحود عام 2004. هناك من يقول إن الرغبة كانت سورية، وكان السوريون ما يزالون مع عساكرهم بلبنان. وهناك من يقول: بل إن الرغبة الخفية كانت إيرانية. لكن على أي حال، ما بدا غامضاً في حالة لحود، صار واضحاً في حالة ميشال سليمان. فعندما انتهت سنوات التمديد للحود، كان توجُّه «حزب الله» المعلَن (وقد خرج السوريون من لبنان عام 2005) ترشيح قائد الجيش ميشال سليمان لمنصب الرئاسة. ولأن 14 آذار كانت وقتها في أوج قوتها، وتتحدث عن المسار المدني للدولة، والعودة إلى عهود الجمهورية الديمقراطية وتطبيق الطائف، فإنها رفضت هذا التوجه، فأقفل نبيه بري مجلس النواب لسببين: أن حكومة السنيورة كانت تسعى لإقرار محكمة دولية تُحاكم قتلة رفيق الحريري، وكان نصر الله وأنصاره يريدون إسقاطها - ولكي لا تنتخب 14 آذار رئيساً منها إذا انعقد مجلس النواب، لأنه كانت لديها أكثرية نسبية في المجلس. وبنتيجة ذاك الإصرار من جانب قوى 14 آذار على الأمرين، عمد «حزب الله» في 7 مايو 2008 إلى احتلال بيروت بالسلاح لإرغام حكومة السنيورة على الاستقالة. وتدخلت الجامعة العربية، وذهب الفريقان إلى الدوحة، حيث تشكلت حكومة توافقية من جديد، وجرى انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية. وبذلك ما استطاعت قوى 14 آذار الاحتفاظ إلا بكسب وحيد هو المحكمة الدولية. والطريف أن سليمان الذي جاء للمنصب بمبادرة من «حزب الله»، واستحسان من النظام السوري، ظل لحوالي الأربع سنوات يتراوح بين الوسطية والميل إلى معسكر الحزب بطرائق غير فاقعة. لكنه في السنتين الأخيرتين واجه عَلَناً «حزب الله» والنظام السوري، وكان الدافع الأول لذلك: تدخل الحزب عسكرياً في سوريا لصالح نظام الأسد، وقد تسبّب ذلك باضطراب شديدٍ في المشهد الداخلي اللبناني. وفي عام 2011 انقلب وليد جنبلاط ومعه رئيس الجمهورية ونجيب ميقاتي على حكومة سعد الحريري التي جاءت للسلطة بعد حكومة السنيورة. كان المعلن أن «الانقلاب» يقوده «حزب الله» وبشار الأسد، ودخلت سراً معهم قطر (وربما تركيا) التي كانت ضامنةً لاتفاق الدوحة(!). سليمان سار معهم وكلف ميقاتي، وشارك في حكومة بوزراء. وقد بدا ذلك حينها توجهاً عاماً في المنطقة لصالح إيران: انسحبت الولايات المتحدة من العراق وسلمته لإيران والمالكي، وأعادت سفيرها إلى سوريا، وما انزعجت من الانقلاب على حكومة الحريري. إن الذي فاجأ التحالف الإيراني هو تصاعُدُ الثورة السورية وعدم قدرة النظام على إيقافها. الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا كانت كلها مع الأسد، وكانوا -حتى إيران- يطالبون بالقيام بإصلاحات. لقد اشتعل الداخل اللبناني باتجاهات متناقضة على وقع الأزمة السورية. فتيار المستقبل و14 آذار المطرودون من الحكومة، والذين يصارحهم النظام السوري بالعداء، تحمسوا للثائرين على الأسد. بينما ترددت قوى 8 آذار قليلا، ثم أعلنت بالإجماع دعْمَها للأسد. وفي مطلع 2012 بدأ الحزب يرسل قوات إلى سوريا، على الحدود مع لبنان. وقال نصر الله أولا إنه يساعد اللبنانيين الشيعة الموجودين في سوريا. ثم قال إنه يريد حماية المزارات الشيعية من التكفيريين، ثم قال إنه يريد حماية نظام الممانعة والمقاومة وتحرير فلسطين! المهم أن الرئيس اللبناني، وفي أواخر 2011، عقد اجتماعاً للجنة الحوار الوطني بقصر بعبدا، وصدر عن المجتمعين «إعلان بعبدا» الذي يقول بالنأي بالبلاد عما يحصل في سوريا. ووقتها يبدو أن إيران ما كانت قد اتخذت قرارها بزجّ «حزب الله» في الأزمة السورية، اكتفاءً بجهود الحرس الثوري في هذا المجال. ولذا فقد وافق «حزب الله» في الحوار على إعلان بعبدا والنأي بالنفس، وفي ظنه أنه بذلك يزعج قوى 14 آذار التي تدعم الثورة السورية. لكن الحزب ما لبث أن تراجع، وكلما ازداد تدخله، وازدادت الحوادث الناجمة عن ذلك في لبنان، وتدفق عشرات الألوف من اللاجئين السوريين، ازداد انزعاج رئيس الجمهورية من الحزب. وبعد تردد تحدى الحزب الرئيس، وتوقف عن حضور اجتماعات لجنة الحوار الوطني، وأعلن خروجه على إعلان بعبدا. وما نجحت المفاوضات حول الحكومة الحالية في تحسين العلاقة. ويغادر رئيس الجمهورية قصر بعبدا والقطيعة مع «حزب الله» تتفاقم. ولذا ما قبل الحزب اقتراحاً أميركياً وبطركياً في الأيام الأخيرة، يقضي بالتمديد للرئيس لسنة، تأجيلا للأزمة، ومنعاً للفراغ! وبانتهاء مدة رئيس الجمهورية على فراغ، يصبح الخارج الإقليمي والدولي هو الحاسم في المعادلة. فمن المراقبين من يعلق ذلك على مفاوضات ممكنة بين السعودية وإيران. ومنهم من يعلق ذلك على تدخلات دولية أميركية وأوروبية. ومن المراقبين من يعلق ذلك على «توافقية» سعد الحريري. فقد تواصل من قبل مع عون لتشكيل الحكومة، ويتحادث معه منذ أسابيع من أجل رئاسة الجمهورية. وكان الأسبوع الماضي حاسماً لهذه الجهة. وجرت مفاوضات مع سائر الأطراف في باريس بإشراف الأمير سعود الفيصل. وما لقي توجُّه الحريري لإمكان اعتبار عون مرشحاً توافقياً أي ترحاب من قوى 14 آذار أو جنبلاط أو بري. وباستثناء معارضة «حزب الله» لترشيح جعجع، فإنه ظل صامتاً حتى في نُصرة عون. لكن عون يبدو مطمئناً لدعم الحزب، وهو يلتمس دعم الحريري بأي ثمن! ويقول معارضو عون إنه كان ضد تيار المستقبل والطائف و14 آذار على مدى 9 سنوات. وبينه وبين «حزب الله» تحالُف، فكيف يمكن اعتباره مرشحاً توافقياً؟ أما عون فيعتبر نفسه والحريري و«حزب الله» من «القوى الجديدة» التي تستطيع حماية لبنان، وينبغي أن تتولى السلطة بدلا من العلائلات السياسية التي تسببت في مشكلات كثيرة! هل تطول مدة الفراغ؟ البطرك الماروني كاد يُجَنُّ لما حصل ويحصل. وهو بسبب الفراغ يعتقد أن المنصب الرئاسي المسيحي صار مهدَّداً. ويعيد البطرك ذلك إلى الاستقطاب الشيعي السني في لبنان والمنطقة. لكن محاوريه يردون عليه بأن الانقسام المسيحي هو السبب: فلماذا لا يجتمع الموارنة الكبار ويتفقون على واحد منهم أو من غيرهم؟ لقد أعلن الفريقان: 14 و8 آذار أنهم على استعداد لتأييد مرشح التوافق المسيحي! إنما هل هذا واقعي وصحيح؟! الواقع الآن أنه لا رئيس للجمهورية في قصر بعبدا، وتتولى صلاحياته الحكومة القائمة مؤقتاً.