أُثيرت قضية العلاقة بين السياسة والأخلاق في الفكر الإنساني، كما في تجارب الدول والمجتمعات، من زاويتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى. الزاوية الأولى هي أخلاقية السياسة وإلى أي مدى يلتزم الساسة بالقواعد الأخلاقية في إدارة الصراعات. وقد شغل هذا السؤال الفكر الإنساني عموماً منذ البدايات الأولى للفلسفة. كما احتل حيزاً مهماً في الفكر السياسي الحديث، وخاصة منذ أن أصدر المفكر الإيطالي نيقولا ميكيافيللي كتابه المشهور «الأمير» في القرن السادس عشر، وقدم فيه ذرائع لتبرير الاستيلاء على السلطة بالقوة وممارستها بأية طريقة تحقق الغاية منها على أساس أن هذه الغاية تبرر الوسيلة بغض النظر عن أخلاقيتها ومشروعيتها. ومازال ذلك السؤال عن أخلاقية السياسة مثيراً للجدل حتى الآن. أما الزاوية الثانية، التي تعيننا هنا، فهي تتعلق بإضفاء طابع أخلاقي على السياسة والسعي إلى فرضه أو ترويجه باستخدام السلطة وأدواتها. وكان استخدام الدين في السياسة، ومازال، هو الشكل الأكثر انتشاراً في هذا الإطار. فالأخلاق والقيم الدينية هي المدخل الذي يلج منه مستغلو الدين لتحقيق أغراضهم السياسية، لما تحظى به هذه الأخلاق والقيم من قبول عام. لذلك يمكن استخدامها للتأثير على الناس بغض النظر عن مدى التزام من يستغلونها بها ماداموا قادرين على إعطاء انطباع بأنهم حُراسها وحُماتها. وتنطوي الأيديولوجيات الكلية بدورها على ما يعتبره أصحابها قيماً أخلاقية، وليست فقط سياسية واقتصادية، خاصة بها. وتعد الأيديولوجيات الاشتراكية، وفي مقدمتها الماركسية بتجلياتها المتعددة، هي الأكثر اهتماماً بإبراز هذه القيم عبر ترويج ما يُطلق عليه أخلاق اشتراكية والسعي لبناء «الإنسان الاشتراكي». ونظراً لقوة تأثير كلمة الأخلاق على الناس فقد توسع استخدامها من جانب حكام وحكومات خارج إطار الدين والأيديولوجيات الكلية، سواء سعياً للارتقاء بالمجتمع أو رغبة في السيطرة عليه. ومازال اللجوء إلى التوظيف السياسي للأخلاق، بحسن نية أو بسوئها، مستمراً في غير قليل من بلاد العالم، حتى بعد نحو ثلاثة قرون على تبلور صيغة الدولة الحديثة التي تقوم على اعتبار هذه الأخلاق جزءاً من المجال الخاص وتبعدها عن المجال العام. لذلك يثير الخطاب السياسي للمرشحين المتنافسين في الانتخابات الرئاسية المصرية، عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، تساؤلات عن مغزى ما يتضمنه من إشارات أخلاقية في لحظة يُفترض أنها تشهد إعادة تأسيس الدولة الحديثة بعد الهزة العنيفة التي ترتبت على توسع سلطة «الإخوان» في استخدام الدين في السياسة. فكان قلق قطاع واسع من المصريين على مصير المجال الخاص لكل منهم في مقدمة دوافع ثورتهم على تلك السلطة، حرصاً على خصوصية نمط الحياة الشخصية بما تتضمنه من ملبس ومأكل ومشرب ومسكن وتعليم وثقافة وغير ذلك. ورغم أن كلا من المرشحين في الانتخابات الرئاسية المصرية يرفض استغلال الدين في السياسة، فإن خطابهما الانتخابي يتجاوز في بعض الأحيان الخط الفاصل بين المجالين الخاص والعام. فيبدو خطاب السيسي محملا بحمولة أخلاقية قد تكون زائدة حين يتحدث عن أهمية الأخلاق والضمير في سياق يوحي بدور ما للسلطة السياسية في هذا المجال الذي تعتبره الدولة الحديثة مقصوراً على الفرد والمجتمع. كما ينطوي خطاب صباحي على تقريظ قد يكون زائداً للسلوك الثوري في سياق يعيد إلى الأذهان مفهوماً معيناً للأخلاق تبنته السلطات في دول عدة تبنت توجهات اشتراكية. والمفارقة هنا أن كلا من المرشحين يحمل حنيناً إلى عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي كان حريصاً على إبعاد سلطته عن المجال الخاص للناس، رغم إفراطها في الهيمنة على المجال العام عبر «تأميم» السياسة وليس فقط احتكار الحكم. ومن المواقف التي لا تنسى لعبدالناصر رده على الشيخ محمد الغزالي حين طالبه بالتدخل لوضع حد لانتشار الملابس النسائية القصيرة (الميني والميكروجيب) للمحافظة على الأخلاق العامة. كان ذلك خلال أحد اللقاءات التي عقدها عبدالناصر مع فئات مختلفة خلال تأسيس «الاتحاد الاشتراكي العربي» (التنظيم السياسي الواحد) عام 1962. فقد رد عليه بما معناه أن ملبس الناس جزء من حياتهم الخاصة، وأن ملابس النساء تختلف من منطقة لأخرى، ومن فئة اجتماعية لأخرى، وأن هذا مرتبط بتنوع يثري المجتمع. ولم يخل رده من تهكم عندما قال للغزالي ما يفيد أنه ليس من الأخلاق في شيء أن يطلق وراء كل امرأة من يقيس ملابسها ويحدد مدى قصرها أو طولها. لذلك فالمأمول أن يكون ما يبدو من اقتحام للمجال الخاص في خطابي مرشحي الرئاسة في مصر عارضاً وغير متعارض مع مقومات الدولة الحديثة التي يعلن كل منهما التزامه بالعمل لترسيخها. فأحد أهم مقومات هذه الدولة هو أن للإنسان مجالا خاصاً ينبغي أن يتمتع فيه باستقلاله ويتعين توفير الضمانات اللازمة لاحترامه، وحظر أي تدخل فيه بغير القانون الذي يحمي هذه الخصوصية كأصل ثابت قد يرد عليه استثناء محدد بدقة إذا اقتضت التقاليد الاجتماعية المتعارف عليها ذلك. فلا يجوز للسلطة العامة في الدولة الحديثة التدخل في حياة الأفراد أو تفضيل نمط معين لهذه الحياة على غيره لأي سبب، كما لا يحق لهذه السلطة تربية الأفراد وفق ما تعتقده أخلاقاً ينبغي إلزامهم بها، لأن هذا حق محفوظ للأسرة. فالحياة لا تستقيم في الدولة الحديثة بدون مجال خاص لكل فرد لا سلطان عليه فيه إلا للدستور والقانون. فالقانون وحده هو الحكم فيما يتعلق بالأخلاق أو الآداب العامة. ويشمل دور القانون، هنا، حماية المجال الخاص لكل فرد لا يخالف هذا القانون. ويرتبط ذلك الاحترام للمجال الخاص، وتقييد تدخل السلطة العامة فيه استناداً على دعاوي أخلاقية أو دينية أو غيرها، بمفهوم الإنسان في الدولة الحديثة. فالإنسان في هذه الدولة كائن عاقل بكل ما تعنيه الكلمة، وقادر بالتالي على تقدير الصواب والخطأ، ومسؤول في هذا الإطار عن تصرفاته واختياراته وسلوكه، لكن أمام القانون دون غيره. وقد تبلور ذلك المفهوم عبر استيعاب دروس التجربة الإنسانية على مدى تاريخها، وفي مقدمتها أن احترام المجال الخاص ضروري لتمكين الفرد من تنمية قدراته بالطريقة التي يراها مناسبة له على النحو الذي يجعله مواطناً مشاركاً في تطوير مجتمعه والارتقاء به. وخلاصة هذا المفهوم، الذي تشتد حاجة مصر إليه، هو أن يكون الفرد قوة دافعة للمجتمع إلى التقدم وليس أداة في هذا المجتمع الذي لا يمكن أن يتحرك إلى الأمام إذا ظل خاضعاً لسلطة مهيمنة حتى على الحياة الشخصية لأفراده.