يتردد كثيراً في مقالات الرأي والتحليلات السياسية التي أتابعها باستمرار مقولات بحاجة إلى مراجعة أو تفنيد منها على سبيل المثال أن تنظيمات الإسلام السياسي في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية، قد انتهت إلى الأبد أو إلى غير رجعة بعد الضربة القوية التي تلقتها سواء من خلال إطاحتها ونبذها شعبياً، أو من خلال تأكد الشعوب بشكل عملي من خواء فكر هذه التنظيمات والجماعات وافتقارها إلى برامج ومشروعات حقيقية قابلة للتنفيذ، ناهيك عن كونها قادرة عن حل المعضلات التنموية لهذه الشعوب من عدمه. كنت اعتقد، ولا زلت، أن انهيار أسطورة هذه التنظيمات والجماعات وفشلها في الحكم في المرحلة التاريخية الراهنة لا يعني بالضرورة نهايتها للأبد، ليس لامتلاكها شعبية تؤهلها للعودة مجدداً إلى مسرح الأحداث في دولها، ولكن لأن تجارب التاريخ تثبت أن هذه التنظيمات تتلون مثل الحرباء وتمتص الصدمات التي تتعرض لها مهما كانت قوتها وشدتها وتأثيرها عليها، ثم ما تلبث أن تعود مجدداً بعد عقد أو عقدين من الزمن لتعاود الكرة مجدداً. اللافت أننا لا ننتبه إلى أن ما يغفل عنه البعض من دروس التاريخ القريب هو ذاته المحفز الذي تستخدمه قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر على سبيل المثال لشحن معنويات عناصرها وأعضائها من الشباب، حيث تركز كوادر الجماعة في خطابها دوماً على فشل أنظمة حكم سابقة في القضاء على الجماعة وفكرها، ويستشهدون في ذلك بما حدث في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ويتخذون من ذلك أمثلة لتوليد طاقات وشحنات إيجابية لدى عناصرها ممن قد يتسلل اليأس والإحباط إليهم، أو ممن يفكرون جدياً في رشادة الطرف الآخر وعقلانيته ومنطقية طروحاته. أعتقد شخصياً أن السبب الرئيسي في التفاف الجماعة على أي محاولات لاجتثاث جذورها الفكرية من المجتمع المصري باعتباره الحاضنة المركزية للجماعة، يعود بالأساس إلى انتهاج استراتيجيات قصيرة المدى، ربما لا تمتد لأكثر من خمسة أعوام في التعامل مع الفكر «الإخواني»، وهذا عائد بالأساس ليس إلى غياب المقدرة على التخطيط ورسم الاستراتيجيات بعيدة المدى ولكن لاختلاف أنظمة الحكم، وبالتالي اختلاف المعادلة وبروز معطيات جديدة تسهم في بلورة واقع مغاير تستغله الجماعة في العودة مجدداً إلى الساحة. تذكرت ذلك كله حين استمعت مؤخراً إلى محاضرة للباحث الكويتي خليل علي حيدر في «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية» حول الإسلام السياسي بين الفكر والواقع، وأشار فيها إلى أن مشروع الإسلام السياسي تلقى ضربة استراتيجية موجعة في مصر بعد أن انتظر الفرصة التاريخية لأكثر من 80 عاماً، ولكنه اعتبر أن للإسلام السياسي عناصر قوة لا يستهان بها داخل العالم العربي والإسلامي وخارجه، وأن هذا المشروع لن ينتهي بهذه السهولة طبعا، والمعنى هنا في غاية الخطورة والأهمية في آن واحد وينبغي الانتباه إليه جيداً من قبل المعنيين. هذه التقديرات لم تفاجئني شخصياً كما أشرت في بداية المقال، ولكنها تبدو مغايرة تماماً للكثير مما يكتب ويتردد في الصحف ووسائل الإعلام خصوصاً من بعض الباحثين الذين يحاولون بث رسائل طمأنة للجهات الرسمية، أو تأكيد أهمية ما حدث من ثورة شعبية هائلة ضد جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. من يتابع الخطاب الصادر عن جماعة «الإخوان» في الآونة الأخيرة يدرك أن الجماعة تفكر على مدى بعيد، وأنها تضع خططا مرحلية تستهدف الحفاظ على مستقبلها ووجودها، وهي تمر في المرحلة الراهنة بما يمكن تسميته بالانسحاب التكتيكي من المشهد السياسي المصري لترميم جراحها بعد الضربة الشعبية التي تلقتها، ومعالجة حالة الرفض الشعبي العارم لأفكارها ونهجها العقائدي والسياسي. ومن ثم تعمل جماعة «الإخوان المسلمين» من وجهة نظري وفق مسارات متوازية تبدأ بالعودة إلى فكرة «المظلومية» وتكريس دور «الضحية» من خلال تكرار الحديث عن المعتقلين والقتلى وغير ذلك من ملفات تدرك جيداً أنها إن لم تكن تؤثر في المرحلة الراهنة في الوجدان الشعبي الرافض لها، فإنها تحتفظ من خلالها بتماسك بنيتها البشرية الأساسية والحيلولة دون تفتتها أو حدوث انشقاقات واسعة بها. وبموازاة ذلك فإن تحليل السلوك الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين يشير إلى أنها تنفذ خطط موضوعة لغسل سمعتها سياسياً ومحاولة دحض الرؤية المجتمعية المستقرة بشأن فشلها وعدم امتلاكها كوادر وخطط حقيقية للتعامل مع المعضلات التنموية في مصر. والجماعة تدرك أن هذه المهمة ليست سهلة وتتطلب العمل على مسارات مختلفة، وبذل جهود مستمرة لفترة من الزمن، وتدرك أيضاً أنها إنْ لم تفلح في تبرئة نفسها من الفشل وعدم الجدارة، فإنها قد تنجح في إلحاق التهمة ذاتها بخصومها سواء من خلال عقد مقارنات نراها باستمرار في القنوات الإعلامية الموالية لـ«الإخوان» بين فترة حكم «الإخوان» ومؤشرات أداء الحكومات المتعاقبة عليهم. ولعل أحد أهداف الاضطرابات وأعمال العنف التي تمارسها الجماعة منذ إطاحتها وعزلها شعبياً في العام الماضي يكمن في محاولة عرقلة الحكومة وتأزيم الأمور وصولاً إلى إثبات نظريتها بأن من حل محلها لم يكن بأفضل منها ودفع الجمهور إلى عقد مقارنات لا إرادية وعفوية إنْ لم تكن في مصلحتها فقد لا تكون ضدها بالمطلق. وأتصور أن التصدي للإسلام السياسي وتنظيماته يحتاج بشكل عام إلى جهد ممتد زمنياً واستراتيجيات بعيدة المدى تعمل على مسارات تربوية وثقافية ودينية وتعليمية ورياضية وإعلامية وسياسية من أجل اجتثاث هذا الفكر الرجعي، الذي يبدو أقرب إلى صيغة «الفيروسات»، التي تصعب محاصرتها ما لم يتم تبني إجراءات محددة ودقيقة للتأكد من القضاء عليه. أدرك أن التعاطي مع كثير من الأزمات في كثير من دول عالمنا العربي ربما يبتعد قليلاً عن المنهجية ويتماس مع النظرة الآنية للأمور، حيث تطغى الانفعالات التي تبدأ قوية طاغية، ثم ما تلبث أن تهدأ وتتراجع حتى تخمد تماماً، ولكن أزمة الإسلام السياسي، وهي بالفعل أزمة، تتسم بسمات معقدة نسبياً، فهي ترتبط بالأفكار المنتشرة عنقودياً على مستويات جيلية أو عمرية مختلفة، وبالتالي تتطلب عملاً مستمراً على المستويين الوقائي والعلاجي وفي جميع مجالات التفاعل المجتمعية. لا أود الظهور بمظهر التهويل من خطر جماعات «الإسلام السياسي» وتنظيماته على المدى البعيد، ولكني لا أود بالمقابل الاستسلام للأفكار التي تهون من خطر هذه الجماعات وتعتبرها في حكم الموتى أو أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة في أحسن الأحوال، فلا تهويل ولا تهوين، ولكن الأمر يتطلب وعياً بخطورة الظاهرة وتعاملاً منهجياً استراتيجياً مدروساً على المديين المتوسط والبعيد لضمان ألا تفاجأ الأجيال المقبلة في الدول العربية بظهور الأفعى مجدداً، وربما تحمل من السم ما يفوق في خطورته ما حملته في مرات سابقة.