صدر في باريس مؤخراً كتاب «القرآن: المقاربات الجديدة»، وهو عمل جماعي فريد شارك فيه أهم المشتغلين بالدراسات القرآنية في الغرب، حيث عرضوا أحدث نتائج بحوثهم وفرضياتهم في حقل يشهد طفرة نوعية في العصر الحاضر، وقد أشرف عليه «مهدي عزيز» وهو باحث شاب من أصل تونسي من أبرز المهتمين بالدراسات القرآنية. ويمكن القول إجمالاً إن الدراسات القرآنية في الغرب تتمحور حول مسلكين كبيرين: الاتجاه النقدي- التاريخي والاتجاه البلاغي- الأدبي، أولهما يشكل امتداداً للمشروع الفيلولوجي الاستشراقي في تطبيق مناهج نقد النص التي طبقت على النص المقدس اليهودي- المسيحي، وثانيهما يندرج في سياق المنهجيات اللسانية والسيميولوجية الجديدة في تحليل الخطاب والنص. في المسلك الأول، يمكن أن نصل في ضوء الدراسات التوثيقية والحفرية واستقصاء المخطوطات والنقوش إلى أن مشروع «المدونة القرآنية» الذي انطلق في بداية القرن العشرين (الطموح لإصدار «نسخة نقدية محققة» من معاني القرآن الكريم) لم يفض إلى نتائج تدحض الرواية الإسلامية التقليدية حول جمع القرآن، على رغم الآمال التي كانت معلقة على «المخطوطات الألمانية» المجموعة في الثلاثينيات (على يد برجستراسر وتلميذه بريتزل) وعلى مخطوطات صنعاء التي تعود إلى عصر البعثة النبوية. بيد أن هذا الجهد كان مفيداً في الجانب المادي من توثيق المخطوطات القرآنية، بجمع ودراسة مئات الألواح والأوراق والنقوش التي تناولها الباحث الفرنسي «فرانسوا دي روش» بدراسات مفيدة تستدعي المتابعة. وفي غياب أي وثائق تاريخية موضوعية، يمكن الجزم بأن أطروحة المراجعين الجدد حول زعم النشأة المتأخرة والتدريجية للقرآن الكريم (في القرن الثاني أو الثالث الهجري وفي سياق المشروع الإمبراطوري الأموي) قد انهارت بالكامل، مما حدا برائدة هذا الاتجاه «باتريشيا كرون » إلى مراجعة أطروحتها الأصلية التي تعود جذورها إلى المؤرخ الأميركي «جون وانسنبورغ». ونتيجة لفشل هذه النظرية، ظهرت أطروحة مختلفة تسير في الاتجاه نفسه ذهبت إلى أن القرآن الكريم نتاج للعصور الكلاسيكية المتأخرة (القرن الرابع والخامس الميلادي)، مستندة إلى بعض النصوص المتشابهة مع «الأناجيل المنحولة والمخفية» للتدليل على هذه الفرضية. ولعل أهم من يدافع عن هذه الأطروحة هي الباحثة الألمانية الشهيرة «أنجليكا نويفرت» التي أصدرت جملة أعمال وفق المنهج السياقي الذي اعتمدته، في إطار البحث عن مسار تشكل النص القرآني من منظور مجال تلقيه أي المجموعة المسلمة نفسها. والقرآن الكريم من هذا المنظور هو مقوم الثقافة الدينية للأمة المتلقية للوحي ومن هنا ضرورة النظر إليه كنص شفوي تداولته الجماعة المؤمنة وعكس أوضاعها بدل النظر إليه حسب الباحثة كنص يتعالى على التاريخ. ويمكن القول إن هذه النظرية التي تتقاسمها الباحثة الألمانية مع الفرنسي «كلود جيلو» والأميركي «غابريل رينولدس» بوتيرة أكثر عدوانية لدى الأخيرين لم تقدم من الأدلة الفيلولوجية سوى بعض المقارنات المتعسفة في الغالب التي لا تثبت أكثر مما هو معروف من انتماء القرآن الكريم للنسق الإبراهيمي التوحيدي. ولقد أثبتت الباحثة الفرنسية «جنفييف غوبيو» في دراساتها المهمة حول علاقة القرآن بالنصوص المقدسة السابقة عليه أن بنية القرآن البرهانية تقوم على الإحالة إلى تلك النصوص وإبراز كونه مصدقاً ومصححاً لما قبله، كاشفة اللثام على إحاطة الكتاب الإسلامي المعظم بالكتابات اليهودية والمسيحية التي لم تكن متاحة لعموم الناس مما اعتبره الإسلام معجزة تثبت صدق الرسالة المحمدية. أما الاتجاه البلاغي الدلالي فيمكن أن نقسمه إلى مسلكين ذهب أحدهما إلى تطبيق منهجية البلاغة السامية التي طبقت من قبل على العهدين القديم والجديد، واتجه ثانيهما إلى تطبيق أدوات التحليل اللساني والسيميولوجي باستكناه البنية التركيبية والحجاجية للقرآن. وتميز في الاتجاه الأول «ميشال كويبرز» وهو باحث ورجل دين بلجيكي أصدر مؤخراً عملاً متميزاً بعنوان «نظم القرآن» يكمل أعماله السابقة التي تناولت سوراً من القرآن من بينها كتاب خاص بسورة المائدة. والبلاغة السامية -على عكس البلاغة اليونانية الخطية- تقوم على التوازي والبناء المحوري العكسي الذي لابد من استكشافه لفهم بنية المعنى، وهو ما تنبه إليه جزئياً الجرجاني في نظريته للنظم، في حين بين «كويبرز» الآثار الخصبة لهذا المنهج الذي يثبت دقة تركيب النص القرآني وتماسكه المنطقي الصلب على عكس الأطروحة الاستشراقية التقليدية التي زعمت تفكك النص وعشوائية بنائه. أما التحليل اللساني الدلالي فقد ركز على جوانب التناص الداخلي في القرآن وتناصه مع النصوص الأخرى. ومن أبرز من اهتم بهذا الجانب من الدراسات القرآنية في الغرب الباحثة الفرنسية «آن سيلفي بواليفو» التي كتبت عملاً جامعياً متميزاً (في أصله رسالة دكتوراه) بعنوان «القرآن كما يرى نفسه: المرجعية الذاتية في القرآن» توصلت فيه إلى أن البنية التركيبية للقرآن الكريم (على عكس الكتب المقدسة الأخرى) تؤسس من خلال الحوار والجدل مع أهل الكتاب لمرجعيته الذاتية، كما أنه يواكب بالتفصيل سياقات نزوله في مسار الرسالة مما ينفي فرضية جمعه المتأخر أو التفاوت التاريخي بين لحظة الجمع ولحظة التقنين المرجعي. ما نخلص إليه هو أن الدراسات القرآنية في الغرب تعرف راهناً حيوية عالية في جوانبها الفيلولوجية والتأويلية، في مرحلة تحطمت فيها النظريات الاستشراقية التقليدية والنقدية المتطرفة التي أرادت تعسفاً تطبيق مناهج نقد النص اليهودي- المسيحي على الكتاب الإسلامي المقدس، وإن كانت رواسب هذه الأطروحات لا تزال تغذي الكتابات الإسلاموفوبية العدائية الخالية من الرصانة العلمية والمشحونة بإيديولوجيا الكراهية والتعصب.