تبقى العلاقات مرتبكة بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران.. وقد علقتُ مراراً في ندوات ومؤتمرات ودراسات علمية على أهداف وأطماع إيران في المنطقة العربية، وسعيها لملء الفراغ الاستراتيجي الذي ولدته سياسات واشنطن. وكان آخر ذلك مقالي الأسبوع الماضي في «الاتحاد» بعنوان: «مشروع إيران من طهران إلى الضاحية»، وقد أكدت فيه على المعضلة الأمنية التي تواجه المنطقة، ومشروع إيران التي تستغل الظروف الراهنة وتراجع دور وحضور القوى الإقليمية التقليدية باستثناء المملكة العربية السعودية وحلفائها في دول مجلس التعاون الخليجي.. وناقشت المواقف الخليجية تجاه المشروع الإيراني الذي تحول إلى صراع إقليمي شيعي تحت المظلة الإيرانية من المالكي في العراق الذي يقاتل العشائر السنية في محافظة الأنبار بغرب البلاد، وتزوده واشنطن وموسكو بالأسلحة الحديثة لهذا الغرض، وبشار الأسد الذي حول حربه إلى مشروع قتال ضد من يسميهم «التكفيريين» والجماعات الإرهابية مع التلميح للمجتمع الدولي بالمفاضلة بينه وبين تلك الجماعات الإرهابية. ووسط كل ذلك يبرز المشروع الإيراني الذي قلت في سياق الحديث عنه إن «الأخطر هو التصريح الاستفزازي عن المشروع الجيو- استراتيجي الذي عبر عنه وبكل وضوح قائد الحرس الثوري السابق والمستشار العسكري للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية الفريق يحيى رحيم صفوي، مستحضراً ومستعيداً أمجاد الإمبراطورية الفارسية الساسانية، مما يزيد من فجوة عدم الثقة بين العرب وإيران». وقد أعلن بصراحة: إن «حدودنا الغربية لا تقف عند شلمجة -على الحدود العراقية غربي الأهواز- بل تصل إلى جنوب لبنان، وهذه هي المرة الثالثة التي يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط»! في إشارة إلى حدود الإمبراطوريتين الأخمينية والساسانية الفارسيتين قبل الإسلام. وهذا التصريح الاستفزازي من مسؤول عسكري كبير يؤكد على أهداف إيران، وأن جميع الأمور الأخرى ما هي سوى تفاصيل. وفي هذا السياق شهدنا في الأسبوع الثاني من شهر مايو الجاري ثلاثة تطورات مرتبطة بحالة الحرب الباردة التي نعيشها بين ضفتي الخليج العربي. الأول كان الدعوة المفاجئة من الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لزيارة السعودية بعد أن أوصدت الأبواب بوجه المسؤولين الإيرانيين، واستعداد المملكة للتفاوض مع إيران حول قضايا المنطقة محل الخلاف بين الطرفين.. وطبعاً يشمل ذلك الملفات الإقليمية العديدة التي تتباين فيها المواقف السعودية ومعها أغلبية المواقف الخليجية والعربية من جهة، والمواقف الإيرانية من جهة أخرى، وأبرزها ملفات سوريا والعراق ولبنان والبحرين واليمن. واستمرار اختلاف المواقف تجاه هذه الملفات من شأنه أن يكرس مناخ الحرب الباردة، ويعزز الفرز المذهبي السني- الشيعي الذي يهدد بتفجير حرب مذهبية إقليمية واصطفاف مذهبي غير مسبوق، لن يستفيد منه أحد. وقد رحبت طهران كما كان متوقعاً بهذه الدعوة السعودية. والتطور الإقليمي الثاني المهم كان عقد الاجتماع التشاوري الأول لمجلس الدفاع الخليجي المشترك في جدة في السعودية بحضور وزراء دفاع دول مجلس التعاون ومشاركة وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل ضمن «المنتدى الاستراتيجي الأميركي- الخليجي» الذي طالب وزير الدفاع الأميركي بعقده بشكل دوري وسنوي في مؤتمر «حوار المنامة» في ديسمبر 2013، وذلك للتأكيد للجانب الخليجي قوة التزام الولايات المتحدة تجاه أمن واستقرار المنطقة، ودعم حلفائها الخليجيين، وأن الانفتاح الأميركي على إيران وحتى التوصل لاتفاق حول برنامجها النووي لن يكون على حساب الدول الخليجية. وهذا ما دأب على تأكيده المسؤولون الأميركيون من سياسيين، وعلى رأسهم الرئيس أوباما نفسه أثناء زيارته في نهاية شهر مارس الماضي للسعودية واجتماعه مع الملك عبدالله، وكذلك أكده وزير الدفاع هاغل في الأسبوع الماضي، وقبله وزير الخارجية، إلى القادة العسكريين كرئيس الأركان الأميركي الجنرال مارتن ديمسبي، وغيرهم من المسؤولين. وكان لافتاً في الاجتماع التشاوري الأول لمجلس الدفاع الخليجي المشترك في جدة دعوة ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز إلى «تعزيز التعاون العسكري بين واشنطن ودول مجلس التعاون الخليجي نظراً للخطر الذي يحدق بأمنها»، وأمله في أن يستمر هذا التعاون لما فيه مصالح الجانبين، وأكد ولي العهد السعودي أن «الظروف بالغة الأهمية والتهديدات المتنامية لأمن واستقرار المنطقة تحتم علينا تنسيق السياسات والخطط الدفاعية لدولنا تجاه كل مستجد أو طارئ». ولمح الأمير سلمان إلى إيران دون أن يسميها، مؤكداً على «الخطر الذي يعصف بالدول العربية، والسعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وتدخل بعض الدول في شؤون دول المجلس. وتنامي ظاهرة الإرهاب. مما جعل أمن دولنا وشعوبنا في خطر». والتطور الثالث المهم هو دخول مفاوضات مجموعة (5+1) بين الدول الست الكبرى من جهة وإيران من جهة ثانية، في فيينا، مرحلة متقدمة ومعقدة حول برنامج طهران النووي، بهدف تجميده وتحويل الاتفاق المؤقت الذي تم التوصل إليه في نوفمبر 2013 بجنيف إلى اتفاق دائم بحلول 20 يوليو القادم، ما لم يتم تمديد المهلة لستة أشهر أخرى... تمهيداً لرفع العقوبات عن إيران مقابل تخليها عن برنامجها النووي. وهذه التطورات الثلاثة المهمة إذا ما سارت في خطوات صحيحة ومدروسة، وباهتمام من الأطراف المعنية، يمكن أن تسهم في تسكين وتنفيس الاحتقان وبناء الثقة المفقودة، ودفع إيران المحاصرة والمنهكة والمستنزفة اقتصادياً وأخلاقياً للتصرف بعقلانية، وليس بعقلية هيمنة وتوسع، فهناك فرصة سانحة يمكن البناء عليها، وعلى ما قد تُفضي إليه الانفراجة في العلاقات الثنائية بين السعودية وإيران من فرص عديدة، ستنعكس إيجاباً على الملفات الإقليمية التي تقف كل من السعودية ومعظم حلفائها في الخليج والعالم العربي فيها في مواجهة الحلف الإيراني في المنطقة. وهنا قد نرى تفاهماً بين الطرفين يقود إلى تخفيف الاحتقان ينعكس إيجابياً وبمباركة أميركية وغربية على انتخابات الرئاسة في لبنان التي يقترب استحقاقها. والأهم في سوريا حيث ليس بالضرورة أن يستمر تمسك إيران بشخصية الأسد، حالها في ذلك حال روسيا، بقدر ما يمكن التعامل مع سوريا من منطلق الاستثمار الكبير بما يحفظ لها دوراً وموطأ قدم استراتيجياً، ويحفظ نفوذها مع النظام الجديد، ويحافظ على توازن الرعب مع إسرائيل بالحفاظ على «حزب الله» وإن بدور أقل حضوراً وطغياناً في المشهد اللبناني. كما أن نهاية الحرب الباردة بين ضفتي الخليج قد تتكلل بانفراجة وتغيير في نهج وموقف إيران وتدخلها في الشؤون العربية الأخرى وأبرزها في العراق، بالتوقف عن سياسة الدعم الطائفي لنظام المالكي، والحرب وتهميش المكون السني في العراق. وفي البحرين واليمن أيضاً، بالتوقف عن دعم الجماعات المعارضة للاستقرار في البحرين، والحوثيين في اليمن. وهذه الانفراجة يجب أن تشمل أيضاً مبادرة حول الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران.. وكلها خطوات إذا اتخذت ستغير المناخ السلبي المسيطر على المنطقة، وتعزز عوامل بناء الثقة وفرص التعاون والاستقرار في العلاقة بين ضفتي الخليج العربي. والراهن أن ما لدينا اليوم ليس اختراقاً ولا انفراجة. بل اختبار نوايا بين الطرفين، وخاصة إيران. ولذلك على طهران أن تراجع مواقفها، وتكون واقعية في مشروعها، لتنجح في فترة اختبار النوايا. وستوضع طهران تحت المجهر الإقليمي والدولي، على أمل أن تتصرف بحكمة وعقلانية وتستثمر هذه الفرصة في معادلة ربحية تُبعد إيران والطرف الخليجي والعربي عن المعادلة الصفرية التي كلفتنا الكثير!